مقالات مختارة

معارك «تويتر»

عادل درويش

تغريدة (مجرد قطرة في تسونامي تغريدات) الرئيس دونالد ترمب فجرت زوبعة سياسية هنا في بريطانيا تتطور إلى أزمة دبلوماسية.

ويبدو أن غالبية منتقدي الرئيس ترمب يلوحون بحق، بينما هدفهم باطل، مستغلين تغريدة هي نموذج يجسد تحذيرنا في عمود الأسبوع الماضي من نتائج الانتشار غير المحسوب لوسائل التواصل الاجتماعي.

الغضب الذي فجرته تغريدة الرئيس ترمب لم يكن بسبب محتواها من فيديو يحذر من نتائج عدم اندماج المهاجرين المسلمين في المجتمع (واتضح أن الفيديو لمهاجرين في هولندا، وليس في بريطانيا) بل المصدر الذي وضع الفيديو على «تويتر» ومواقع الإنترنت وغرده ترمب. فالمصدر منظمة سياسية يمينية متطرفة تراها المؤسسة السياسية البريطانية والصحافة على أنها عنصرية فاشية تستهدف الأقليات، وبالتحديد المسلمين.

وقبل الدخول في تفاصيل أدت لاستفحال الأمر حتى بات يهدد بأزمة دبلوماسية بين بريطانيا وأميركا، فلنفحص كيف أدت وسائل التواصل الاجتماعي إلى تمييع الخط الفاصل بين الصحافة المطبوعة، التي تعودت تاريخياً أن تكون عند مستوى المسؤولية وتلتزم القواعد المهنية، وبين وسائل التواصل الاجتماعي التي ينشر فيها كل شيء، سواء كان حقيقياً أم نسجاً من الخيال، أو ما يسميه المصريون في شهر رمضان «تخاريف صيام».

فحتى قبيل السنوات العشر الأخيرة التي انتشرت فيها وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت القواعد الأساسية التقليدية التي يتبعها الصحافي عند نشر خبر، تشهد تراخياً نسبياً في البداية حتى أصبح يضرب بها عرض الحائط. ولعل السبب هو بداية تأسيس الصحف مواقع على الإنترنت مع هوس التسابق على نشر الخبر، وبالتالي تراجع تقليد الطبعة الثانية والثالثة ليستبدل بتجديد الموقع، وهو أمر أرخص اقتصادياً. لكن صاحب هذا التطور تراخٍ وتراجع في التدقيق في مصدر الخبر، أو التأكد من كل حقائقه وأبعاده؛ وازداد الأمر سوءاً بتحول عدد كبير من المطبوعات إلى مواقع فقط على الإنترنت.

والجيل الجديد من الصحافيين نادراً ما يغادر المكاتب وصالات الأخبار، إذ يلتصق بالكومبيوتر و«اللابتوب» أو «الآيباد» أو «التابليت». وكل ساعات يومه الصحافي داخل العالم الافتراضي، ويتصيد الأخبار منه. أحياناً ما يتأكد من الأخبار والأرقام باستخدام التليفون، لكني نادراً ما أراهم يذهبون إلى مقابلات إلا المحددة مسبقاً مع مسؤولين أو ساسة.

عالم يفصله قرنان. الجيل الجديد من القرن الواحد والعشرين الذي يعيش بجسمه في المكتب أو صالة الأخبار، ويعيش بعقله ووجدانه داخل العالم الافتراضي للإنترنت. وجيلنا من القرن العشرين الذي لا يذهب إلى صالة الأخبار إلا لاجتماع التحرير الصباحي، ولا يعود إليها إلا في المساء لنسخ تقريره على الآلة الكاتبة (التيبريتر)، أو يرسله بـ«التلكس» لو كان مراسلاً في مكان بعيد، فلم يكن في أيامنا كومبيوتر أو «لابتوب» أو حتى الهاتف الجوال. أو كنا نملي التقرير من كشك التليفون العمومي في الشارع لقسم «الكوبي – تيكرز» والترجمة الحرفية قسم «تسلم التقرير».

الفارق هنا في مفهوم الصحافة نفسها، كيف تُطور المعلومة إلى خبر فقصة صحافية منشورة.

كان جيلنا يقضي اليوم في المقاهي في صداقة عمل مع ساسة ومسؤولين، ويختلط بالناس صناع الأخبار في مجالاتهم المعلم والممرضة أو سائق القطار. دردشة وتبادل معلومات ومرح حول مشروب أو وجبة أو فنجان شاي، وتتكون في ذهن الصحافي، وفي دفتر ملاحظاته، المعلومات والأحداث التي ينسج منها خيوط القصة الصحافية. وسواء كان لديه المتسع من الوقت للتأكد من أرقام ومعلومات، أو لم يكن، فإن ضابطي التحرير «sub – editors» (المحرر التحتي) يتولون في غرفة الأخبار الترتيب والتأكد من صحة الخبر.

في جيل صحافة القرن الواحد والعشرين اختفت تماماً مراحل «كوبي تيكر»، ومرحلة تعرف بمتذوق الخبر (كوبي تيستر) أو «فرَّاز الأخبار» الذي يقرر وضعها في سلة المهملات أو تمريرها إلى الديسك المختص، ومرحلة ضبط التحرير (سب – إيدتنغ). مراحل كانت مثل مصفاة الشوائب لتنقية الخبر، والتأكد من صحة المعلومة.

جيل اليوم من الصحافيين يذهب الخبر من لوحة مفاتيحه إلى موقع النشر دون المرور بالمراحل السابقة. وتضافر ذلك مع العزلة التي يعيشها الصحافي وعقله ووجدانه في العالم الافتراضي، مع غياب الترابط مع الإنسان العادي والاحتكاك اليومي، والأخبار والمعلومات التي تتناول حياة هؤلاء البشر. فالأخبار دائماً عن الناس، سواءً كانوا كباراً كحُكام أو ساسة صانعي قرار، أو أشخاصاً عاديين مثلنا من مهنيين كمعلمي أولادنا أو أطباء يداووننا، أو من يقدم لنا الخدمات يومياً، أو ضحايا الحوادث والمآسي والكوارث.

وحقيقة لم يبقَ من جيلنا إلا نفر قليل لا يزال عاملاً، ليس له تأثير يذكر، والغالبية الساحقة من شباب صحافة القرن الواحد والعشرين المحصورين بين «اللابتوب» و«التابليت»، والعالم الافتراضي، وكلهم تقريباً يعتبرون «تويتر» جهاز تلغراف نشر الأخبار القصيرة، و«فيسبوك» هو صفحة الرأي. وهذا الجيل يصنع الرأي العام اليوم.

في عالم القرن الواحد والعشرين بجيله الذي يصنع الأخبار بمعزل عن الناس، انبثقت ظاهرة غير مسبوقة؛ رئيس القوة العظمى الأولى والأقوى في العالم يفضل العالم الافتراضي للتواصل الاجتماعي على الوجود في العالم التقليدي الذي وجده معادياً له ويتوحد ضده، خصوصاً أن المؤسسات الصحافية يسيطر عليها اليسار الليبرالي الذي أخذ على نفسه عهداً مقدساً بالتخلص من هذا الرئيس.

الرئيس الأميركي الجديد بدوره لا يخوض معاركه السياسية في ساحات نزال القرن العشرين التقليدية، في شكل مقال صحافي، أو مناظرة عامة، أو مناقشة في مقابلة إذاعية أو تلفزيونية، بل يخوضها في قصفات الـ140 طلقة على «تويتر».
مسألة الحساسية المفرطة لبعض مسلمي بريطانيا، وتلويحهم بتهمة الإسلاموفوبيا في وجه كل من ينتقدهم، دفعت الساسة، سواء محافظين أو عمالاً، لمعاملتهم بشكل خاص، ولذا تسابقوا، وكذلك المعلقون، في إدانة تغريدة الرئيس ترمب الذي اتضح أنه لم يكن يدري ما هي جماعة «بريطانيا أولاً».

هوس الجيل الحديث بالعالم الافتراضي ووسائله الحديثة رسخ ظاهرة تفكير الجماعة، ولذا في لقائهم مع المكتب الصحافي لرئيسة الوزراء ألحوا بالأسئلة بشأن تغريدة ترمب، فكان تصريح المتحدث بإدانتها، ورد الرئيس ترمب ناصحاً الزعيمة البريطانية بتركيز اهتمامها على خطر التطرف الراديكالي الإسلاموي في بلادها.

الساسة وصحافة اليسار تطالب بإلغاء الدعوة الملكية للرئيس ترمب لزيارة دولة رسمية لبريطانيا، العقلاء يحذرون من تصعيد أزمة دبلوماسية مع أميركا، الحليف الأول والأهم تاريخياً لبريطانيا. تخريب العلاقات مع أميركا هدف قديم وبعيد المدى لليسار البريطاني الذي يزداد نمواً وتأثيراً في وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي الذي ينازلهم فيه الرئيس ترمب… ولا تزال المعركة مستمرة.

………………….

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى