مضحك هذا التاريخ
سالم العوكلي
“مضحك هذا التاريخ الواثق من أوثانه
يتبختر في المكتبات، وفي أشداق المعلمين
مضحكٌ ..
مذ كانت أمجاده المكتوبة
على السبورة السوداء
تحيلها إسفنجة إلى غبار”
سالم العوكلي ، من ديوان برق الليل.
لم تكن علاقتي بالتاريخ جيدة ، حتى ضمن المناهج الدراسة ـ ربما بسبب التوجس من مصداقتيه، خصوصا عندما كنت أعيش أحيانا روايات مختلفة لحادثة حدثت في قريتي أو مدينتي ــ من جانب آخر كنت أراقب أثناء الدراسة معلم التاريخ وهو يمحو بممسحته العناوين التاريخية الكبيرة على السبورة فتتحول إلى غبار يتسلل إلى أنوفنا وصدرونا الصغيرة.
تطرقت في المقالة السابقة إلى مقالة الشاعر والناقد محمد الفقيه صالح “الانتقائية التاريخية بين المقتضيات المنهجية وتدني الوعي التاريخي” المهمة. وهي في مجملها تتطرق لانشطار الفعل التأريخي بين السياف والعراف، وتنتقد المدونة التاريخية الليبية التي كان بعضها زاخرا بالمسكوت عنه لاعتبارات سياسية واجتماعية، والغالب تمليه صراعات داخلية، جهوية وإثنية وقبلية. وللتدليل على أن للسياف رؤيته الخاصة في كتابة التاريخ وفق مصالح سلطته. سأورد حكاية صغيرة حدثت معي في مدينة درنة تشي بالمدى الإجرائي الذي يتم بموجبه توظيف الخيال التاريخي في خلق ذاكرة السياف النضالية من أجل الحصول على نوع من شرعيةٍ لم تتحقق بأية وسيلة أخرى.
لدي ابن عم كان يسكن في مدينة درنة، زارني فجأة وللمرة الأولى في بيتي ، وكان يحمل ملف أوراق، وبعد الترحيب والشرهيب أخبرني بالغرض من الزيارة .
ابن عمي متزوج من سيدة والدها مجاهد معروف ولديه شهادة مسجلة في أحد الكتب الصادرة عن مركز جهاد الليبيين، وهذا كله عادي وطبيعي ومنطقي، ولكن ما أخبرني به ابن عمي هو العجيب والمدهش . قال لي أن أشخاصا (ولا داعي لذكر الهوية) زاروه في بيته وطلبوا منه شهادة إضافية تسجلها زوجته باعتبارها سمعتها من والدها الذي لم يذكرها في شهادته الموثقة. والرواية المقترحة مفادها، أن هذا المجاهد الذي شارك في معركة القرضابية أصيب بجانبه مجاهد آخر لا يعرفه إصابة بليغة، فحمله خارج المعركة وتنقل به إلى أن استقرا في كهف، وبدأ يعالجه بالعسل إلى أن استرد وعيه وبعض عافيته بعد أسبوع، وحينها سأله المجاهد الحقيقي عن اسمه فقال له : اسمي محمد عبد السلام بومنيار القذافي .
ضحكت بعد قراءة الحادثة المكتوبة في أوراقه بأسلوب وخط ركيكين، وأراد من ابن عمه الذي سمع أنه كاتب أن يعيد صياغتها، وحين فاجأته ضحكتي فهم ما أعنيه وقال : أرجوك وعدوني بسيارة جديدة مقابل هذه الأوراق.
فقلت له من باب المداعبة : أولا حتى لو كانت الحادثة حقيقية، نسيبك هذا ما دار فينا خير .. ليته ما أنقذ حياته لكان أنقذ حياة ليبيا .ثانيا هذه ليست مهنتي ولا أجيدها أنا فقط أكتب الشعر فقط. وبعد أن يئس ، خرج طالبا مني أن أدله على شخص آخر يقوم بالمهمة، وفي الحقيقة خطر على بالي شخص من درنة سوف لن يتردد بشرط أن يتقاسم معه ثمن السيارة الجديدة، لكني اعتذرت منه وقلت له وأنا أودعه: أنا لي علاقة وثيقة بالخيال لكن ليس في التاريخ. ودون أن يفهم ما قلته خرج قائلا: الله يعطيك ادعوة وخلاص.
طبعا ترد هذه الحكاية كلمحة بسيطة عن التاريخ الذي تسعى السلطة لكتابته، وعن حاجة المستبد لتاريخ شخصي يدرجه ضمن ملحمة النضال التي تعطيه بعضا من شرعية السلطة، خصوصا حين يكون قد انقلب على عائلة لها تاريخ طويل في النضال، وبجواره زعماء لهم تاريخ نضال شخصي، مثل بورقيبة وهواري بومدين. غير أن هذا النقص الذي عاشه القذافي حاول ترقيعه بمحاولات عدة، بعضها تشويه تاريخ المقاومة الليبية كما ذكر في المقالة السابقة، وبعضها محاولة لإدراج نفسه أو أسرته ضمن هذا النضال. إضافة إلى سعيه الذي استمر لسنوات من أجل الحصول على شهادة تثبت أنه من نسل أهل البيت.
حين دخلت الدراما التلفزيونية على خط “التأريخ الليبي” كان المسلسل الدرامي الضخم”حرب السنوات الأربع” منتج من قبل رأس السلطة شخصيا ومشاركا في كتابة السيناريو. وكان تحوير الحقائق في صالح لحظة العداء المتطرفة مع أمريكا، وفي صالح رؤية المستبد لكيفية السيطرة على هذه الجغرافيا المترامية، وكان تأثر القذافي بالحالة القره مانلية على أشده؛ الذي يحتاج إلى إلهامها عبر انقلاب الشقيق على الشقيق، وعبر مذبحة الضباط في الوليمة الشهيرة ومذابح القبائل في الشرق الليبي، هذا التقمص الذي يجعله أحيانا يدير مملكته العظمى من بيت ومكتب القره مانلي في مدينة طرابلس القديمة التي ألقى من فوق سقوفها خطابه الوداعي الأخير.
أما فلم عمر المختار الذي تعثر كثيرا بسبب محتواه، فإنه تنازل أخيرا لمزاج السياف على حساب العراف حين حرف الكثير من مفاصل سرده، من أجل إقصاء الحركة السنوسية التي حارب تحت لوائها بطل الفلم من المشهد النضالي، بل وضعها في خانة الخيانة، رغبة في تصفير التاريخ الليبي ليكون الطاغية مبتدأه.
من جانب آخر كان السعي بعدها لتقديم فلم مماثل عن معركة تاقرفت يأتي في سياق ما وصفه محمد الفقيه صالح بالوعي التاريخي لدى العديد من منتجي الثقافة في ليبيا الذي”ما يزال يدور في نطاق الأيديولوجيا القبلية والجهوية والإثنية”
وكان إخفاق هذا العمل فنيا وجماهيريا بسبب نسيان منتجيه لحقيقة أن المضمون أو الرسالة مهما كنت قوية لا تغفر الإخفاق الفني، وأن نجاح فلم عمر المختار رغم ما يزخر به من تحوير للتاريخ يقف وراءه حشد من النجوم، وتقنية سينمائية عالية، إضافة إلى شخصية البطل التي تحظى بإجماع محلي وعربي وعالمي كإحدى رموز المقاومة التي عانقت في النهاية مصيرها التراجيدي الجاذب لصناع الدراما في كل مكان وزمان.
في بداية تجهيزنا للأعداد الأولى لجريدة ميادين سعينا لتوثيق ما حدث في الأيام الأولى لهذا الحراك من قبل الفاعلين فيه، وكان صديقي أحمد الفيتوري يترك جهاز التسجيل مفتوحا ويدع المتحدث يتكلم بحرية وبإسهاب، وحين نبهته إلى أننا نحتاج إلى مساحة محددة للشهادة وأن تفريغ هذه الأشرطة سيكون منهكا، قال لي لا يهم سنمنتج، ولكن فرصة الآن لنحفظ حكايات الأيام الأولى، لأن هذه الحكايات من قبل نفس الأشخاص ستتغير بعد سنوات، إن لم يكن بفعل النسيان بفعل الرغبة الذاتية لتحوير السرد وفق ما حدث في السنوات اللاحقة، وبالتالي سيقول الشاهد ما يجب أن يقال وليس ما حدث فعلا. وانتقلنا للحديث عن مفهوم النسيان لدرجة نسينا أن لدينا موعدا مع شاهد آخر مازال في مرحلة ما قبل تعديل الشهادة وما قبل النسيان أو التناسي .
طبعا بغض النظر عن ما رافق هذا الحراك من تغطيات إعلامية كاذبة ومحرفة ومشوهة ستكون مستقبلا من ضمن وثائق التأريخ لهذه المرحلة، فإن هذا الحدث ترويه الآن أطراف الصراع ،كل بطريقته ووفق مصلحته أو أيديولوجيته أو جهته او قبيلته وكما حدث مرارا. بل أن التبرير الأخلاقي لكل ما يحدث من صراعات وحروب يقلب التاريخ رأسا على عقب. ويحرف التاريخ ونحن نتفرج عليه أمام أعيننا.