مصير الأموال الليبية في الخارج.. بين التجميد الأممي والتحايل القانوني
ظلت الأموال الليبية المجمدة في الخارج محوراً للشد والجذب، وفرصة للضغط والابتزاز الذي تمارسه حكومات غربية وبنوك وشركات تجارية للاستحواذ على أصول وأموال مجمدة تُقدّر قيمتها بنحو 200 مليار دولار، مودعة في البنوك الغربية أو مستثمرة كأسهم وسندات في الشركات الأوروبية، وهي خاضعة للعقوبات الأممية بموجب القرار رقم 1973 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في مارس 2011، وتتابعه لجنة العقوبات المشكلة من المجلس، حيث تشمل رقابتها كافة الأصول المالية والأموال والموارد الاقتصادية التي يملكها نظام القذافي بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الخارج.
ورغم المحاولات المتكررة التي تبذلها الحكومات المتعاقبة لتعديل قرار التجميد الأممي عبر تمكين المؤسسة الليبية للاستثمار من تولي نقل الودائع وإدارة الأصول في الخارج، دون التصرف فيها، وكان آخرها جهود حكومة الوحدة والتي باءت بالفشل مع استمرار حالة عدم الاستقرار بالتزامن مع أزمة اقتصادية عالمية ناتجة عن تداعيات انتشار فيروس كورونا، والتي عقدت من الحسابات وجعلت الأموال الليبية مطمعاً لبعض الحكومات.
مسلسل محاولات الاستيلاء على الأموال الليبية تواصل بشكل مضطرد بعد أن كشفت 218 عن قيام البنك المركزي البريطاني بتجميد أصول ليبية مملوكة للمصرف المركزي تُقدّر بـ 3 مليارات جنيه إسترليني، ورغم عدم وضوح أبعاد ومسوغات الخطوة إلا أنها تأتي في وقت تسعى فيه أطراف بريطانية نافذة لاستصدار تشريع من مجلس العموم، يقضي باقتطاع جزء من أموال ليبيا المجمّدة لديها، لسداد تعويضات ضحايا الجيش الأيرلندي، على خلفية دعم نظام القذافي في الثمانينيات للجيش الأيرلندي المتهم باستخدم أسلحة ليبية في هجمات ضد الحكومات البريطانية.
التوجه البريطاني سبقه محاولة بلجيكية في فبراير عام 2021 للتصرف في أموال ليبية، عندما وافق وزير المالية البلجيكي فنسنت فان بيتيغيم على اقتطاع جزء من الأموال الليبية المودعة في بنك “يوروكلير”، لصالح أمير بلجيكا لوران، تُقدّر بـ 47 مليون يورو، يقول إنها مستحقة له على الدولة الليبية، بعد سنوات عديدة من مطالبته بها نظير ما قال إنه إخلال ليبي بالالتزامات التعاقدية مع شركة غير ربحية، كان يرأسها لإعادة تشجير مئات الهكتارات من السواحل الليبية المتصحرة، إلا أن الخطوة البلجيكية باءت بالفشل مع رفض لجنة العقوبات الأممية لإجراءات الحجز البلجيكية.
ورغم الصعوبات القانونية التي تعترض محاولات الاستحواذ على الأموال الليبية المجمدة لصالح المؤسسة الليبية للاستثمار بسبب اعتبارها مؤسسة سيادية، بالإضافة لشمولها بالعقوبات الأممية، إلا أن الخطر يهدد بشكل جديّ الأموال المباشرة المملوكة للدولة الليبية كودائع لصالح مصرف ليبيا المركزي ومؤسسات حكومية أخرى، وهي قد تكون محل حجز قضائي تنفيذاً لأحكام قضائية واجبة النفاذ، رُفعت على الدولة الليبية من جانب شركات تعاقدت في سنوات ماضية لتنفيذ مشاريع داخل البلاد، ولجأت لغرف التحكيم الدولية، حيث حصلت على أحكام ملزمة لتخوض معارك قضائية لتنفيذ هذه الأحكام في ظل ضعف واضح في أداء إدارة القضايا التي تمثل الدولة الليبية أمام المحاكم الخارجية، والتي تلجأ في الغالب للتعاقد مع شركات محاماة خاصة تتقاضى نسب أتعاب عالية.
ويأتي الحكم الصادر في قضية التحكيم لصالح شركة الخرافي الكويتية، والذي حكم فيه للشركة بمبلغ مليار دولار مع الفوائد، من أوائل القضايا التي فتحت الباب أمام صراع قضائي متواصل في المحاكم المصرية والفرنسية، بعد أن دخلت الشركة الكويتية في نزاع ضد الدولة الليبية على أرض تبلغ مساحتها 24 هكتاراً في منطقة تاجوراء شرق طرابلس بحق انتفاع لمدة 90 عامًا، بقيمة إيجار سنوية تقدر بنحو 730 ألف دينار ليبي، بموجب تعاقد مع الحكومة الليبية في العام 2006، التي سحبت منها المشروع العام 2010.
وفي ذات السياق نجح محامو المؤسسة الليبية للاستثمار في منع شركة “سيبابلاست” التونسية من الحجز على أصول المؤسسة في فرنسا، بعد حصول الشركة التونسية على حكم من غرفة التحكيم في تونس يمنحها تعويضات تبلغ 280 مليون يورو، ناتجة عن إخفاق ليبيا في تنفيذ سلسلة من العقود المتعلقة ببناء ثلاثة سجون واستيراد معدات وسترات واقية من الرصاص وتوفير التدريب، وهي عقود وقّعها المجلس الوطني الانتقالي مع شركة Giacorosa الإيطالية قبل أن تستحوذ عليها الشركة التونسية التي انتقلت إليها الالتزامات التعاقدية عام 2014.
ورغم الجهود القضائية والقانونية المبذولة فقد فشلت الدولة الليبية في حماية أصول استثمارية، منها ما حدث من أوغندا في مارس 2017 حين أممت الحكومة شركة الاتصالات التي تملك ليبيا فيها حصة قيمتها 69% بوصفها شركة متعثرة تعاني من خسائر متراكمة، نتيجة عدم إيفاء الشريك الحكومي الأوغندي بالتزاماته، وذلك بعدم سداد الحكومة الديون المستحقة للشركة، وكذلك عرقلة هيئة التنظيم الأوغندية لعمل الشركة ورفض الحكومة الأوغندية دفع حصتها من الميزانية التشغيلية والاستثمارية اللازمة لتطوير الشركة، وفق بيان مجلس إدارة الشركة الليبية للبريد والاتصالات وتقنية المعلومات القابضة في مارس 2017.
إلّا أن الجهود المتعلقة بإعادة وحماية الأصول والأموال الليبية حققت بعض النجاحات بعد أن تمكنت المؤسسة الليبية للاستثمار من استرجاع مبلغ 1.1 مليار دولار، من خلال إبرام تسوية مع بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي، الذي تورط في عمليات فساد مالي لإبرام صفقات ما بين 2007 و2009 بقيمة إجمالية قدرها 2.1 مليار دولار.
والتحديات الخارجية التي تواجه الأموال الليبية المجمدة تقابلها تحديات على الصعيد الداخلي، يتمثل في الأزمة السياسية الداخلية وغياب الاستقرار الأمني وتضارب الشرعيات الذي أثر على إدارة مؤسسة الاستثمار، مع شبهات فساد تعلقت بتحقيقات غربية بشأن قيام أطراف في المؤسسة بالتواطؤ عبر التصرف في عائدات وأرباح أصول ليبية مجمدة في بلجيكا، تُقدّر بـ16 مليار دولار خلال الفترة من 2011 حتى 2017، وهي أموال كانت مودعة بمصارف في لوكسمبرغ والبحرين لجهات غير معروفة، وفق ما نشره موقع “يورو نيوز” الإخباري نقلاً عن صحيفة “لوفيف” البلجيكية في الرابع من ديسمبر عام 2018.