مصداقية السندباد البحري؟
عمر أبو القاسم الككلي
يتمتع موقع الراوي في الأعمال السردية التخييلية fictional بأهمية خاصة، فهناك الراوي التقليدي الذي يمكن القول أنه “نائب” عن المؤلف أو ناطق رسمي باسمه، والذي اصطلح على تسميته بـ “الراوي العليم” أو “الراوي كلي الحضور”. هذا الراوي عليم بمواضي الشخصيات وحاضرها، وحتى مستقبلها. أكثر من ذلك، هو عليم بما يعتمل داخلها من مشاعر وأفكار ورغبات. هو، في الواقع، يقوم مقام الإله في هذا الملكوت المحدود، الذي هو النص السردي التخييلي.
والقاريء يصدق هذا الراوي ويحمل أفكاره وآراءه وما يدلي به من معلومات عن شخصيات العمل القصصي أو الروائي محمل الجد. والسرد هنا ينفتح، طبعا، بضمير الغائب.
لاحقا، ومع تطور الرؤية الاستقلالية الفردانية، ظهر الراوي الذي يتولى مقاليد السرد بالأصالة عن نفسه ويروي بضمير المتكلم. هذا الراوي ليس راويا عليما إلا بما حدث له وخبره ويتذكره. وحتى حينما يتناول بالحديث شخصيات أخرى يكون حديثه عما بدر منها إزاءه، أي عما شاهده وسمعه منها وما عرفه عنها، وعما استنتجه أو استشفه من سلوكها، وليس قادرا على الغوص في نفسياتها وما يعتمل في عقلها من أفكار إلا عن طريق التخمين والاستنتاج.
في هذه الحالة تتخذ العلاقة بعدا شخصيا بين الراوي بضمير المتكلم والقاريء. فله، افتراضا، أن يصدقه أو يكذبه. يشبه الأمر كما لو أن صديقا باح لي بشيء من وقائع حياته، فقد يثور لدي أحيانا شك في مصداقية ما يسرده من وقائع. ولا تكون لدي فرصة للتحقق من صحة الوقائع التي يرويها، إلا أنه يمكنني، عن طريق إعادة بناء ما سرده ووضعِه على محك المنطق، أن أرجح صدقه أو كذبه، على الأقل في بعض الوقائع.
سنتخذ هنا مثالا رحلات السندباد البحري السبع الواردة في ألف ليلة وليلة. صحيح أن مسرودات حكايات السندباد ترد على لسان شهرزاد باعتبارها “راويا وسيطا” والتي ليس لنا ما يثبت صدقها (ونحن نطرح مسألة الصدق من عدمه هنا، لأن الأعمال السردية التخييلية تحاول إيهامنا بأنها تسرد لنا وقائع فعلية).
يروي السندباد البحري، بضمير المتكلم، وقائع رحلاته السبع وما جرى فيها من أهوال وغرائب ووقائع عسيرة وصعبة، نجا منها كلها.
وحتى لو صدقنا شهرزاد، فإن السؤال هنا: ما الذي يجعلنا نصدق روايات السندباد هذه؟. ففي جميع رحلاته يقضي نحبهم الذين كانوا معه. وبالتالي ينتفي لدينا وجود شهود عيان يؤكدون، أو ينفون، حدوث ما روى من وقائع. إن “إماتة” جميع الشهود الذين يمكن أن يشهدوا على ما حدث، دليل على أن السندباد كان يختلق ما يسرده. فليس من المعقول، ولا حتى من المرجح، أن يفنى رفاق السندباد العديدون جميعا في الرحلات السبع، وينجو هو بمفرده. وبالتالي فإنه من حقنا أن نشك في أن السندباد قام بهذه الرحلات أصلا.