مشكلة “السي الوسطى”
عمر أبو القاسم الككلي
في كتابها “صيرورة Becoming”* تسرد ميشيل أوباما، زوجة باراك أوباما، سيرتها الذاتية، فتورد حادثة طريفة وقعت لها في طفولتها.
كانت أسرتها تعتبر أسرة رقيقة الحال. وكانت تستأجر الطابق الثاني من كوخ قرميدي تملكه روبي، خالة أمها، المقيمة هي وزوجها في الطابق الأول.
روبي هذه كانت معلمة بيانو. وقد قررت ميشيل، في سن الرابعة، تعلم البيانو لديها. خالة أمها هذه كانت تعقد لتلاميذها وطلبتها جلسة استماع على الملأ في قاعة بحضور الجمهور.
تروي أنه لما حان دورها نهضت، بكامل ثقتها في نفسها من أنها متمكنة من معزوفتها. لكنها حين جلست إلى البيانو، ارتج عليها الأمر. ذلك أن بيانو خالة أمها روبي، الذي تمرنت عليه ولم يسبق لها أن رأت بيانو غيره، كانت ألوان مفاتيحه حائلة بدرجات مختلفة، وكانت أيضا متباينة الشكل لتآكلها، وفي بعض الأماكن انكسر العاج بسبب القِدَم بحيث تبدو مثل “أسنان معطوبة” وكان مفتاح السي الوسطى middle C (نقطة انطلاق العزف) يفقتقد إحدى زواياه، بحيث يشكل ما يشبه الوتد “بحجم ظفري، فأركز عليه في كل مرة”.
لكن البيانو الذي وجدت نفسها في حضرته في هذا الامتحان، أمام جمهور مترقب، كان “سليما تماما… ممسوحا بعناية من أي غبار، مضبوط الأوتار، ومفاتيحه الثمانية والثمانون تنتظم في أضلاع بيضاء وسوداء لا شية فيها”. ثم تقول: “كانت المسألة أنني لم أكن متعودة على الخلو من العيوب The issue was that I wasn’t used to flawless”!. لذا لم تتبين مفتاح السي الوسطى، إلى أن جاءت روبي وأرتها إياه.
تذكرني هذه الواقعة بالمثل الليبي القائل: “الِّي مش متعلم بالبخور ينحرقوا حوايجه”!
أعتقد أن شيئا مقاربا لهذا جدا يحدث للشعوب التي عاشت تحت القمع عبر تاريخ مديد، وليس فقط تحت نير الأنظمة الشمولية المعاصرة، عندما تزول من على أطرافها القيود وتنزع الكمامات عن أفواهها، فجأة، وتجد نفسها في مناخ حر تماما. فترتبك وتضطرب، وتغيب عنها نقطة الانطلاق السليمة نحو بناء وطن جديد ومستقبل مأمول. يغيب عنها “مفتاح السي الوسطى” في الوضع الجديد، لأنها لم تعتد إلا على نظيره المكسور في الوضع السابق. فيميد بها الواقع ويتزلزل، وتنقسم على بعضها ويعادي كل قسم القسم الآخر وتنخرط في حروب أهلية مدمرة. وتحاول بعض الأطراف الرجوع بالوضع إلى بيانو أكثر تآكلا وانهيارا من البيانو السابق.
* Michelle Obama, Becoming, CROWN, NEW YORK, 2018