مرافعة ضد الوعي المُفكّك
المهدي التمامي
إن التفكير الذي لا ينتج المعرفة يتحول إلى تفكير “خلب” بلا أهداف.. فإذا ما سقطت أهدافنا المعرفية فإننا نصبح رهن آلية الانغلاق على أنفسنا داخل بنية جامدة، تكون دون مستوى المماثلة أيضًا، لأنها عبارة عن تكرار واجترار بليد.
لهذا؛ يعد التفاعل الإيجابي داخل البناء المجتمعي هو أساس وحدته، بما يحدثه من تأثيرات إيجابية كاملة؛ من شأنها تحقيق المصلحة المشتركة للمجتمع، كما أن هذا التفاعل هو الذي يؤدي لصهر الجميع بكامل خصوصياتهم داخل بوتقة الشأن العام مما يعزز التمازج والاندماج.
من خلال هذا المدخل السيسيولوجي؛ يبدو جليًا أن الخلل الذي تعاني منه الحالة الليبية هو خلل بنيوي بالأساس، يكمن في المسألة الثقافية التي أغفلها النظام السابق، وأغفلتها “فبراير” على مدى عقد من الزمن، ولن تكون هناك حلول جذرية للأزمة الليبية الراهنة؛ إلا إذا ابتعدت عن الديمقراطية التوافقية، أو ما يسمى “المحصاصة”، لكن للأسف الشديد؛ فإن هذا لن يحدث في ظل المستوى المتواضع والضعيف في تركيبة المجتمع الليبي من ناحية الثقافة الديمقراطية، وانعدام “تقاليد المجتمع المدني”، التي كانت وراء كل المحاولات الفاشلة التي أعقبت انتفاضة فبراير..
لا ننكر الاجتهاد الصادق للبعض في المرحلة الجديدة، لكن هذا الاجتهاد جاء دون أي خبرة سياسية ومن دون مؤسسات مجتمع مدني؛ إذن فالآثار السلبية لكل هذه العوامل مجتمعة كانت وراء العنف المتزايد كحالة انعكاس لعدم وجود انسجام بين المجتمع والدولة، وهذا أساسه أحادية النظام السابق، حيث دأب طيلة 40 عامًا على تكريس هذا الجمود، وتأصيله بشتى الطرق في ذهنية الجميع بلا استثناء، لتتحول، عبره، شريحة واسعة من الكفاءات العلمية إلى أبواق مُرغمة وغير مُرغمة، تلهث خلف وجودها، بينما ظلّ البقية أيتام الفكر وهم يُحقَنون، ويحتقنون، بالنموذج الأوحد لفكر مثالي يرتفع عن واقعية المواطن، في حالة من ضراوة التوازي والارتباك والتجريب العقيم.
ونتيجة لذلك؛ صار الخبز اليومي لحياة الليبيين يتلخص في القيم الإنسانية الكبرى مثل الكرامة والعدل والمساواة وتفعيل القوانين واحترامها، وهذا الخبز “مجازيًا” لابد أن يمر بمكابدة ومعاناة واقعية توضح ثمنه الباهظ، فإذا ما وصل الناس إلى هذا المستوى من الوعي في المجاهدة؛ فإن تلك القيم سوف تترسخ في نفوسهم، وهذا ما يعطي لحياتهم عمقًا وحيويةً ومعنى.
لكن الذي يحدث في ليبيا تحديدًا، العكس، حيث ينتفي الإيمان بشمولية تلك القيم كشرط ضروري، إضافةً إلى شرط التضحية من أجل تلك الأسس البنيوية للخلاص من إرث الحقبة الأحادية ذات السياق المعطوب، إرث دأب على إرغام الناس وفق رؤيته “الجزئية/الانتقائية”، على الرغم من الإطار الثوري المبين.
من هنا؛ صارت الدعوة ضرورية للتخلص، أو بمعنى أكثر شفافية، “التطهر” من الأنانية والبراغماتية واستغفال الآخر ودحرجة الوقت في اتجاهات عقيمة.. وجعل الإيثار واقعًا ملموسًا مقبولاً ومحببًا، عبر مجاهدة ومخاض عسيرين.
إن ما نعتقده “فلاحة” عبر الوعي المفكك المختل المتخلف؛ هو من منظور القيم الإنسانية يعد أمًرا مذمومًا.. لأنه يخلق في المقابل عند صاحبه قناعاتٍ وأفكارٍ مضادةٍ للواقع المأمول وسوّية الوعي، كما أشرنا إليه من قيم ذات بعد إنساني محض.
للأسف؛ فإن المغدورين منا ما يزالون يعيشون رومانسية التعانق والتعالق مع تلك المقتضيات الضرورية بطمأنينة ساذجة، دون أن يعوا أن المجابهة، ولو قلبيًا، قد تكون حتمية في أبسط الأمور تعقيدًا، ألا وهي القيم التجريدية وإمكانية جعلها واقعًا تستظل به النفوس في توقها إلى نافذة الانعتاق.
إذن؛ علينا أن نجعل من اقتران المعاناة كمقابل لثمن تلك القيم نتيجة مهمّة، تتلخص في الوعي الحريص على الحفاظ على تلك القيم المكتسبة في حياة الناس، وحتى نقطع الطريق بذلك على الوعي المفكك من أن يعيد إنتاج نفسه، كنوع من إصرار ذلك الوعي الجهنمي المتخلّف على طمس القيم الإنسانية في ذهنية الناس، وجعل حياتهم شبه معطلة، وفي حالة بلادة واجترار دائم.