مراجعة The Signifier
خاص | أحمد سامي
عند الحكم على أي لعبة، في العادة ما يتم اتخاذ الجرافيك وأسلوب اللعب في الحسبان كمعيار مزجي أساسي، بينما تكون القصة عنصرًا ثانويًّا. العصر الحالي لألعاب الفيديو يهتم جدًا بالقدرات البصرية للعبة، مقارنة بالقصة التي تقوم تلك القدرات في الأساس بالتعبير عنها.
بالطبع كلها أذواق، لكن في الوقت الذي تتجه فيه الاستوديوهات (صغيرة أو كبير) لصنع ألعاب ذات مستوى جرافيكي قوي، اتجه استوديو Playme للناحية الأخرى من المعادلة؛ اتجه للقصة.
أحداث اللعبة تدور في عالم قوي جدًا على الصعيد التكنولوجي، لكنه لم يصل إلى مرحلة الدستوبيا بعد (أي التشظي المأساوي للعالم كما نعرفه). غالبًا ما يتم عمل اقتران بين التطور التكنولوجي، وتدهور حياة البشر؛ وبناء عليه تظهر على الساحة ألعاب مقدمة لقصص مُبكية فعلًا.
لكن في The Signifier الوضع مختلف، اهتمت اللعبة جدًا بتسليط الضوء على أن التكنولوجيا قادرة على تغيير حياة البشر للأفضل، لكن ليس بالضرورة أن يكون (الأفضل) هو (الأنسب) في الحقبة الزمنية المعينة التي تمر بها البشرية.
زمن اللعبة يشهد تصاعدًا مهولًا في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، تلك التقنيات التي وجد البعض أنها قادرة على تدمير الوجود الإنساني بالكامل، ووجد البعض الآخر أنها قادرة على نقل البشرية إلى مرحلة أخرى تمامًا من الرخاء والتقدم. وبين كليهما نرى البطل، السيد (فريدريك راسل)، وهو يقوم بمهنته الأثيرة: قراءة العقول.
ربما أول ما قد يخطر بذهن أي أحد هو فيلم Inception للمخرج كريستوفر نولان، لكن لا؛ اللعبة بعيدة كل البعد عن الفيلم. مهمة السيد راسل هي الحصول على نسخة رقمية من دماغ أحدهم، وبفضل حاسوبه العملاق في معمله المتواضع، يأخذ في التجول بين أروقة الذكريات المشوشة؛ بهدف الوصول إلى معلومة معينة قد تساعد أحدهم في أمرٍ ما.
وبما أن ولوج أدمغة الموتى يعتبر أمرًا مرتبطًا بالجرائم الجنائية فقط، فمهنة البطل واحدة من المهن ذات نسبة الخطر العالية جدًا، وكذلك المربحة جدًا جدًا.
تبدأ القصة عند استلام البطل لدماغ سيدة توفيت حديثًا، وعليه إيجاد سبب الوفاة إذا كان انتحارًا كما يعتقد البعض، أم أن هناك قاتلًا يحوم بالجوار. المثير في الأمر هو أن السيدة كانت مرموقة جدًا من حيث المهنة والتاريخ، حيث تقلدت منصب نائب رئيس أكبر شركة تطوير تكنولوجي في العالم؛ ومن الغريب فعلًا أن يجدوها ميتة في شقتها فجأة، بينما الحياة كلها أمامها بهذا الشكل.
الآن على البطل أن يدخل بين طيّات ذكريات الفقيدة، ويبحث عن معلومة تستطيع حلّ اللغز. وبين هذا وذاك، نتعرف على العالم المشوش والضبابي للغاية؛ للعبة التي لن تسلب فقط حواسكم، بل أيضًا ستغير نظرتكم للحياة ككل.
اللعبة مصنوعة بالمنظور الأول، أي أن اللاعب لا يرى جسده على الإطلاق، وهذا ساعد أكثر على الانغماس في أحداث اللعبة. والأحداث نفسها لا ينفع معها إلا المنظور الأول فعلًا، نظرًا لما تحمله من دلالات ورسوميات وأصوات، لا يتم التفاعل معها بقوة إلا إذا كانت مباشرة أمام العين، بدون وجود عنصر (جسدي) ثالث تلتفت العين إليه من وقتٍ لآخر. وهذا توافق بالكامل مع أسلوب السرد القصصي الذي يعتمد على رواية الأحداث صوتيًّا، بينما اللاعب يتفاعل مع البيئة باستمرار.
لذلك إذا نظرنا للأمر بنظرة عَلوية، سنجد أن المطورين بذلوا قصارى جهدهم لتقديم تجربة نفسية لا يعايشها إلا المريض النفسي، خصوصًا أصحاب الأمراض الانفصالية عن الواقع مثل الفصام، الشيزوفرينيا، والاضطراب ثنائي القطب.
يرى الاستوديو أن عالم الذكريات ما هو إلا تجسيد باطني لعالم الأحلام، لكن بصورة غير قابلة للتفتيت بسهولة. الحلم في طبيعته مشوشّ تمامًا، ولا يوجد ما يجعله باقيًا إلا بعض النبضات العصبية العاملة أثناء عرض أحداث الحلم نفسه، وذلك سرعان ما يُنسى بمجرد الاستيقاظ.
الفرق الجوهري بين الأحلام والذكريات، هو أن الأحلام من المستحيل الوصول لها بعد تشظيها، لكن الذكريات من الممكن الوصول لها بعد عناء. طرحت اللعبة العقل كأحجية مليئة بالقطع المترابطة مع بعضها بعضا بزوايا حادة ودقيقة للغاية، وليس كمتاهة كما قد يعتقد اللاعب بديهيًّا. الأحجية الكبيرة بها مربعات صغيرة (ذكريات)، كل مربع بداخله قطع أخرى ذات زوايا حادة أيضًا.
لكن بينما الذكريات نفسها موجودة بالكامل كمربعات صغيرة، إلا أن القطع الداخلية لتلك المربعات؛ التي قد نجد بعضها مفقودًا. وللبحث عنها، يجب التنقيب بدقة في المربعات الأخرى، وفي النهاية نصل إلى قطعة مشوهة من الماضي. وبمساعدة الذكاء الاصطناعي، يمكن إعادة تصنيع القطعة الناقصة، ووضعها في المربع الأصلي دون إحداث نسبة خطأ كبيرة؛ ثم الحصول على ذكرى قابلة للقراءة أخيرًا!
ولهذا أسلوب اللعب ينطوي على خط زمني خاص بكل ذكرى، وفي كل ذكرى توجد قطع على اللاعب أن يكتشفها عن طريق التجول في حجرات وأماكن كثيرة جدًا. وأثناء ذلك يحصل على قطع مشوهة (مواد خام – Raw Data)، تلك يمكن ضمّها للقطع الأخرى والحصول على صورة جديدة تمامًا من المشهد. وهنا تقدم اللعبة عالمين منفصلين يمكن للاعب أن يخوضهما بشكلٍ تبادليّ أثناء قراءة العقل. العالم الأول هو الموضوعي – Objective، والثاني هو الذاتي – Subjective.
واحد منهم يمثل الوجه الخارجي للذكرى حسب ما أعاد تصميمها الذكاء الاصطناعي، والثاني هو الوجه الباطني (القبيح) لها، والذي يمثل اللاوعي البشري، وفيه ما لا يقدر الوعي على إظهاره أبدًا؛ نظرًا لبشاعته.
والأمر لا يقتصر على عوالم الذاكرة فقط، فما يتم اكتشافه فيه، يكون له تأثير كبير على أرض الواقع. فاللعبة مجملًا تقدم تجربة تفاعلية تجعل اللاعب غير متوازن على الدوام، تمامًا مثل بطل القصة. في لحظةٍ ما، يمكن للواقع أن يمتزج مع نمطيّ الذاكرة، فيصبح كل شيء عبارة عن كتلة هلامية من الأبعاد المتداخلة.
وهذا في الواقع ما جعل للعبة ثقلًا لدى أي شخص، وخصوصًا اللاعب التقليدي الذي بالتأكيد لن يتوقع تجربة معقدة كتلك أبدًا. التجربة ككل مؤلمة فعلًا، وفي بعض الأحيان مرعبة للغاية. العالم المظلم للماضي الذي يحاول الوعي كبته باستمرار، لن يوجد فيه أي شيء حسن على الإطلاق، وسيترك صاحبه مع كوابيس لا تنتهي.
التعقيب السلبي الوحيد على أسلوب اللعب هو عدم وجود أدلة كافية لتخطي بعض المراحل في الأحداث. فمثلًا على اللاعب الانتقال بين نمطيّ الذاكرة على الدوام لجمع قطع الأحجية الناقصة، بهدف إتمام مراحل الذكرى الواحدة. لكن في بعض الأحيان توجد مرحلة من الصعب جدًا تخطيها بدون إرشادات أو تسهيلات.
قد يجول اللاعب لساعات وساعات في مرحلة ابتدائية جدًا في مسار القصة دون إحراز أي تقدم، وهذا قاتل للمتعة. لكن من الناحية الأخرى، اللعبة سهلة من حيث الألغاز بنسبة 80%، وتعتمد على التبديل بين نمطيّ الذاكرة لتعويض النواقص، واكتشاف الجديد في كليهما.
لم تعتمد اللعبة على تقديم مستوى جرافيكي قوي للغاية، بل اعتمدت على المستوى المتوسط؛ مقارنة بالألعاب الأخرى التي بدأت تُمهد حاليًّا للجيل الجديد، أو تُعتبر جزءً منه بالفعل. وذلك أتى في صالح القصة نفسها، لأن الأحداث في النهاية سيريالية تمامًا، ونادرًا ما يجد اللاعب أمامه حاجة قهرية للتفاعل مع البيئة المحيطة بمعيار واقعي. نظرًا لحدوث أغلب المشاهد في نمط الذاكرة المشوشة، والذي لا يحتاج إلى جودة جرافيكية جبّارة على الإطلاق.
الرسوميّات الموجودة فعلًا استطاعت تحقيق هدف القصة، والذي ينطوي على ثلاثة عناصر: التشتيت، الرعب؛ وأيضًا التشكيك في كل ما قد يعتبره اللاعب في حياته من المسلّمات التي لا يجب النقاش فيها.
هنا يمكن القول أن الصوتيّات عززت بشدة من تجربة الرعب. بالرغم من ظهور اللعبة من الخارج على أنها مجرد قصة تحقيقات وجريمة، إلا أنها تنتمي إلى مدرسة الرعب النفسي، والتي تكون أعمالها أقسى بمراحل من رعب القفزات الفجائية في الألعاب التقليدية.
تكونت الصوتيّات من مقاطع موسيقية تصدح في خلفيات المشاهد من خلال مصادر صور واضحة كالمذياع مثلًا، أو تكون مشوشة في خلفية العقل، ومصدرها في تلك الحالة يكون هو النمط المشوش للذاكرة، والذي يحمل كل أمارات الرعب.
الخلاصة : لعبة The Signifier هي تجربة نفسية-رعبية من الطراز الرفيع. قدمت مزيجًا من التشويق، الرعب، وأيضًا الخيال العلمي. قصّتها متشعبة ومتصاعدة بشكلٍ ممتاز، صوتيّاتها داعمة جدًا للقصة، ومستواها البصري في بعض الأحيان متوافق مع الطابع العام للألعاب الاجتماعية التقليدية أجل، لكن من الناحية الأخرى يعتمد في أغلب المشاهد على تدمير الواقع وتقديمه في هيئة وجبة غير واضحة المعالم؛ وعلى كل حال تجدها لذيذة فعلًا. المشكلة الوحيدة هي الصعوبة في حلّ بعض الألغاز، إلا أن الأمر يمكن التغاضي عنه في مقابل باقي العناصر الاحترافية المطروحة هنا.
التقييم النهائي : 6.5/10
[تم توفير هذه اللعبة من قبل الناشر قبل صدورها في الأسواق]