مذكرات د. علي عتيقة و “المقارنة المؤلمة”
سالم العوكلي
لعل أهم ما عدت بها من زيارتي لعمان كتاب أحضره لي الصديق المترجم فرج الترهوني ، رغم الإهداء الخاص على صفحته الأولى من ابن المؤلف للصديق فرج وزوجته الفاضلة نوارة، ولكن ما عرفته عن فرج أنه يحب أن يشارك الآخرين كل متعة يحظى بها ، ولعل هذا الإيثار ما جعله ينخرط في حقل ترجمة الأدب العالمي، وفورا أدركت أن هذا الكتاب سيكون ممتعا.
“بين الإرادة والأمل ــ ذكريات وتجارب حياتي” للدكتور علي أحمد عتيقة” والذي أقراه الآن باستمتاع لا يضاهي بهذه التجربة الثرية، وبالأفكار الخلاقة التي يتضمنها، وبسلاسة السرد الممتع.
تجربة نجاح ليبية من المفترض أن تدرس للأجيال القادمة مثلما يفعلون في بعض الأمم، حيث مبدأ القدوة الناجحة التي تلهم الأجيال وتحفز طاقاتهم وتملؤها بالإرادة والأمل .
حكاية مغامرة عصامية، متنها المعرفة، وهدفها خدمة كيان مازال في طور التأسيس، ينتقل الشاب من جبّاد للماء في سواني مصراتة إلى جباد للمعرفة في جامعات الولايات المتحدة، يحرق المراحل ويفعل المستحيل، والهدف السامي من وراء كل ذلك أن يسهم في بناء وطنه الوليد .
حتى الآن لم أكمل هذا الكتاب الضخم ، من 850 صفحة، لكن حكاية مهمة أحببت أن اتوقف عندها، ربما لأن اختصاصي من نفس اختصاص صاحب المذكرات ـ كلية الزراعة ــ ذاهبا إلى المقارنة بين ما حدث معه في الولايات المتحدة فيما يخص طموحه لمواصلة الدراسات العليا، وما حدث معي في كلية الزراعة بالبيضاء حين كان طموحي أن أكمل دراستي .
تحصل الشاب علي عتيقة، عندما كان يعمل بمصلحة الزراعة بطرابلس، على دورة من قبل النقطة الرابعة، بعد أن تقدمت جامعة ويسكونسن الأمريكية بمشروع للإصلاح الزراعي الخاص بملكية الأراضي في البلاد النامية، يتضمن عقد مؤتمر دولي في الجامعة لمدة ستة أسابيع، يتبعه برنامج تدريبي لطالب واحد من كل بلد يدعى للمشاركة في المؤتمر. واستغل الشاب عتيقة هذه الفرصة من أجل إكمال دراسته التي حرم منها في ليبيا بسبب ظروفه الاقتصادية الصعبة، وعبر مراحل كثيرة من الإصرار والمثابرة، يذكرها بالتفصيل، استطاع تمديد إقامته حتى تخرج من كلية الزراعة. وهي معجزة ما كانت لتتم لولا أن وقف معه مسؤولون وأساتذة أمريكان وتجاوزوا الكثير من العقبات الأكاديمية من أجل أن يستمر في تحصيله المعرفي، وجاء حماسهم لهذا الطالب بكون بلده المستقلة حديثا مُقدِمة على بناء وتحتاج إلى كوادر مؤهلة . لكن طموح الشاب لم يتوقف عند حصوله على الشهادة الجامعية، بل رغب في إكمال دراساته العليا وسط دهشة أصدقائه والمشرفين عليه . فقد شجعه التفوق في دراسته الجامعية على الرغبة في الالتحاق بالدراسات العليا العام 1955 ، يعاضده مجموعة من الأساتذة ومسؤولي الجامعة في طموحه، يذكرهم جميعا بالأسماء، ومنهم علماء في اختصاصاتهم . وتم تعيينه معيدا في الكلية مع إعفائه من الرسوم الجامعية من أجل مصاريف استمراره في الإقامة في أمريكا، وأكمل رسالة الماجستير، ثم رغب في إكمال رسالة الدكتوراه في جامعة كاليفورينا المميزة، ويروي سيرة هذا الطموح الذي وقف معه فيه الكثير من أساتذته ومسؤولي الجامعتين ومصدر الحماس دائما هذا الطالب الليبي الوحيد الطموح الذي تحتاجه بلده المقدمة على بناء الدولة الجديدة، وبعد جهد جبار أنجز رسالة الدكتوراه التي تحصل عليها بتقدير عال، وأقيم له حفل تخرج حضره أستاذه المشرف (بيين) الذي هنأه وقال له ” علي .. لقد اشتغلت كثيرا حتى حصلت على الدكتوراه والآن عليك أن تشتغل أكثر من ذلك حتى تثبت أنك قد حصلت عليها فعلا بجدارة”.
وتأتي هنا المقارنة المؤلمة بين هذا الدعم الكبير الذي وجده طالب ليبي فقير في الولايات المتحدة، وما تعرضنا له أو تعرضت له شخصيا، حين طمحت لإكمال دراستي العليا في جامعة قاريونس فرع البيضاء العام 1983 بعد تخرجي من كلية الزراعة بتفوق .
في أحداث الحادي عشر من أبريل 1982 التي تحول فيها مقر الجامعة بالبيضاء إلى بركة الدم بعد زحف أجهزة الأمن واللجان الثورية على مقر الجامعة والأخذ في اعتقال وضرب الطلاب والأساتذة دون هوادة ودون ذنب يقترفونه . في ذلك اليوم تم تجميع الطلاب المتفوقين المرشحين لدورة صيفية ــ تشرف عليها منظمة الفاو ــ في إحدى القاعات أمام حشد من أعضاء اللجان الثورية المسلحين وصب وابل من الشتائم علينا ، وكان جرمنا الوحيد هو تحصلنا على تقادير ممتازة في الفصول السابقة حيث وصفنا أحدهم بأننا حمير وأن الحمار الذي يدرس فقط من الممكن أن يتحصل على تقدير امتياز متهما إيانا بكون لا دورا ثوريا لنا لذلك فالدراسة ليست غاية ولكن الغاية هو العمل الثوري.
بعد التخرج منعنا من إكمال دراستنا أو حتى حصولنا على كشف الدرجات الرسمي حتى لا نكمل الدراسة على حسابنا ، ذهبت بعدها للعمل في مشروع الكفرة الإنتاجي ولكن لاحقنا منشور يمنع تعينينا حتى يُبث في وضعنا العسكري، سرعان ما لحقه استدعاء للخدمة العسكرية التي أضاعت سنوات من عمرنا دون أن نستفيد منها أو نفعل فيها شيئا، وكانت مجرد ذريعة لإجراء التمام اليومي والتأكد أننا على قيد الفشل.
واصلت لسنوات تقديم طلبي لكن دون فائدة لأن الرد كل مرة (يوجد عليه تحفظ من مكتب الاتصال باللجان الثورية) . سيطر على الجامعة طلاب كانوا يدرسون معنا، وأوفدوا أنفسهم أو رفاقهم للدراسات العليا رغم أن معدلاتهم السنوية من المفترض أن تؤدي إلى فصلهم من الدراسة وفق اللوائح الأكاديمية .
واصلت عملي بقطاع الزراعة بدرنة الذي كانت تديره عصابات تتصارع على الغنائم إلى أن تم تقليص الكادر الوظيفي وتثبيتي في قطاع الزراعة بوظيفة (حارس مبنى ثاني) التي مازالت وظيفتي الرسمية، ولم أُرقَّ حتى الآن لحارس مبنى أول .
حين كنت أقرأ مذكرات د. علي عتيقة، ووقفت على ما لقاه من دعم من الجامعات الأمريكية ومسؤوليها من أجل أن يكمل دراساته ، دمعت عيناي ، متسائلا عن ماهية الوطن ؟ ومستغربا من حرص أولئك الأساتذة والمسؤولين الأمريكان على إعداد كوادر مؤهلة لبناء ليبيا، ومن حرص المسؤولين الليبيين آنذاك والثوريين على تدمير أي تفوق أو تميز ليبي، وإحباط كل صاحب طموح يريد أن يقدم شيئا لنفسه ولهذا الوطن .
مذكرات د. علي عتيقة، أحد أهم الكتب التي قرأتها. إنها تحتاج إلى كتابات كثيرة للإحاطة بما فيها من كنوز خبرته العملية والمعرفية، فحين عمل عتيقة وكيلا لوزارة التخطيط والتنمية، ووزيرا لها فيما بعد، أعد مع لجنة التخطيط المشتركة خطة خمسية ثانية (1969 ــ 1974 ) من أربع مجلدات، تشبه إلى حد كبير تلك الخطة التي وضعها بعد عقود ، مهاتير محمد، لماليزيا فيما يخص التنمية البشرية والمكانية واستثمار العنصر البشري وتنويع مصادر الدخل وغيرها من الرؤى التي كانت ستضع ليبيا على قمة الدول النامية ، لكن للأسف لم يكتب لها التنفيذ بسبب وقوع كارثة الانقلاب العسكري في ال 69 الذي وضع معظم الكوادر المؤسسة لليبيا في السجن أو المنفى أو الإعدام أو الإقامة الجبرية، ومنع إنتاج كوادر جديدة بعد أن حلت الشعارات بدل العمل، وأصبحت الدراسات العليا والفرص لا تمنح إلا لذوي الولاء الثوري . وهو الأمر الذي ندفع ثمنه حتى الآن .
.