مدن الأمس
سمير عطا الله
تذكّرت مصر في أسبوع واحد، مرور 90 عاماً على ولادة أحمد بهاء الدين، وعام على غياب محمد حسنين هيكل. قامتان من صحافتها، وعلامتان من الصحافة العربية في القرن العشرين. وأسلوبان مختلفان، في الكتابة والحياة والسياسة. بهاء كان أقرب إلى الانطواء، هيكل كان عكسه. بهاء لم يرد من السياسة، ولا قَبِلَ، أكثر من أن تمهد لعمله الصحافي. هيكل حوَّل الصحافة إلى عمل سياسي، إلى جانب عبد الناصر وبعده، رافضاً المناصب والمواقع، ولكن خائضاً المعارك السياسية، إلى درجة دخول السجن أيام أنور السادات.
كلاهما، بهاء وهيكل، كوّن ذروة الصحافة المصرية وحداثتها وتحوّلها إلى صحافة عربية، ينتظرها القارىء في كل عاصمة بعدما كان ينتظر الصحافة الأدبية وحدها. وفي أي حال، كانت المرحلة مرحلة العمالقة والتحديث: محمد التابعي، مصطفى وعلي امين، احسان عبد القدوس، وبقية الكوكبة.
وكان العصر لا يزال عصر الصحف والمجلات معاً. وأحدثَ بهاء، في سعة ثقافته وسعة صدره، تطويراً مفرقياً، عندما رأس تحرير “صباح الخير” وجعلها ابتسامة مصر في حقبة التقشف، بينما انصرف احسان عبد القدوس إلى تطوير “روز اليوسف” التي ورثها عن والدته، فاطمة اليوسف، اليتيمة الطرابلسية التي اصبحت سيدة المسرح والصحافة في عاصمة النيل.
كان هيكل يتبرم من تكرار القول إن اللبنانيين أسّسوا صحافة مصر، ويصرف النقاش في هذا الموضوع بيده. غير انه عاد في السنوات الاخيرة الى وضعهم في مراحلهم التاريخية، وخصوصاً في “الاهرام”، الصحيفة التي أسّسوها لعقود قبل أن تؤمّم، ويصبح مؤسسها الحديث، ومؤسس حداثتها. وربما كان موقف هيكل من “اللبنانيين” سياسياً وشخصياً. فهو رجل الناصرية، وهم كانوا رجال القصر الملكي، إثنان منهم في مجلس الشيوخ، كريم ثابت مستشار الملك فاروق، والشيخ انطون الجميل، رئيس تحرير “الاهرام”.
طبعَ اللبنانيون، أو “الشوام” بطابعهم، جزءاً كبيراً من الحياة الثقافية والصحافية والنقابية، وحتى الأدبية في مصر. وفيما كانت روز اليوسف على المسرح، وماري كويني في السينما، كانت مي زيادة ترعى، أول وآخر صالون أدبي من هذا الحجم في تاريخ مصر. وسبب بروز سيدات لبنان في هذه الحقول المعاصرة، أن المجتمع المصري كان لا يزال شديد المحافظة. وكانت المرأة التي ترسل مقالاتها إلى النشر، تُعتبر رائدة في الأدب النسائي، مثل الدكتورة بنت الشاطىء. وفي هذا المناخ التقليدي والبادىء الانفتاح، تدفق كبار أدباء مصر، أمثال طه حسين والعقاد، والشيخ الطرابلسي مصطفى صادق الرافعي، وولي الدين يكن، على صالون مي، مثلما كان أدباء فرنسا يتدفقون على صالون المدام ريكامييه.
ولم يقم لـ”صالون مي” شبيه في أي عاصمة عربية. فإذا توافرت “مي” أخرى، فمن اين تأتي بسرب أمثال العقاد وعميد الأدب العربي وسائر نجوم الرحلة الزاهرة، التي سوف تعرف في ما بعد بـ”عصر النهضة”؟ وهو العصر الذي لم يستمر ولم يتكرر، إلا لمرحلة عابرة، هي ايضاً، في حنايا بيروت الثقافية الماضية، التي مثل قاهرة أوائل القرن العشرين، احتضنت في النصف الثاني منه حركات الحداثة الشعرية والترجمة، وتحولت إلى مجمّع للفازعين من الخوف والرقيب.
وقَّع الشاعر شوقي ابي شقرا أمس ذكرياته (دار نلسن) من تلك المرحلة، مطرزة بأسلوبه وطفولته ودهشته الدائمة. كل شاعر كان يحمل همه عارفاً أن لا مدينة له سواها. عبد الوهاب البياتي بتمرده، أو احمد الصافي النجفي بالغترة والعقال، وتحتهما ترجمة عمر الخيام، ولهوه، وطربه، وما قصَّر في الاعمار طول السهر.
حركة “شعر” في رأس بيروت، وقلعة “الاداب” في الخندق الغميق. وما بين الجبهتين، يزدهر شعر الرحابنة أنيساً عليلاً ظليلاً، ومُغنّى على صوت فيروز. من أجل هذه المجموعة المزدحمة من مصابيح الشعر وأنوار الأدب، قامت في “النهار” صفحة ثقافية يومية أولى، وملحق أدبي أسبوعي أول. وكان قلم شوقي أبي شقرا يقلّم الزوائد والزؤان في اللغة، لكي تصبح الافكار والكلمات اللامعة أكثر بياناً عفوياً وأقل تبييناً منظوماً.
كانت “النهار” يومها مجمّع المواهب ومركز التحديث. كل قادم حمل إليها اسلوبه وطريقته. وعلى رغم الغيرة الضارية بين أهلها، كانت تخرج على الناس كل صباح مثل دفاتر البنات، موضبة بلا بقعة، ومرتبة ولا أثر عليها للممحاة الفاعلة فعلها في هشاشة الحواشي، توحد اطارها النهائي “مديرية” فرنسوا عقل، حامل الاختام. ولكن، أبعد من ذلك، كانت “الاهرام” في القاهرة، فمداها كان من مدى مصر. وبحذاقته، أعطى هيكل في الجريدة، مكاتب لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وطه حسين وكل علم. وخلافاً لتقاليد الكبار بألاَّ يكتبوا إلا بالسياسة، كتب “الجورنالجي” هيكل في كل شيء، من مقابلة مع اينشتاين في نيو جيرزي، إلى وصف للعلمليات الجراحية في الصين، دون تخدير إلا بالابر. وقال نجيب محفوظ، لو كتب هيكل الرواية، لما آلت الينا نوبل. واعتُبِرَ هذا الكلام لذعة مبطنة، لا مديحاً صريحاً. أي ان هيكل كان يضيف من مخيلته ما يتناسب وجملته الطويلة والمذوقة، بعكس بهاء، الذي ميَّزه الاقتضاب والسلاسة والبساطة.
لم تكن أهمية مصر يومها فقط في انها أكبر وأقوى دولة عربية، بل في انها، إلى جانب ذلك، في كل بيت عربي. وإذ أغلق إمام اليمن بلاده دون أي نسمة، خوف أن تختبىء فيها ريح، لم يكن يتمالك إلا أن يقرأ “الاهرام” سراً، هو ووزيره فقط. وإذ كانت قوة مصر العسكرية موضع جدل، اقتحمت قوتها الناعمة الندوات والاجواء والمسارح: السينما والغناء والضحكة والصحافة والشعر البلدي الساخر والرواية الكبرى. وبفضل هذا النوع من الأثر تقدمت أيضاً بيروت الصغيرة، فيما غارت تحت كمّ الرقيب، مدنُ التاريخ مثل دمشق وأرض دجلة والفرات.
تلاحظ في كتب الرحالة والمستشرقين الكبار، أنهم عندما جاؤوا إلى المنطقة لم يكن فضولهم رؤية حكامها. اللهم إلا الانبهار الذي تركه فخر الدين على الجميع، وخصوصاً لامارتين. كانوا يأتون بحثاً عن آثار الفكر والحضارة، ناهيك بمعالم السحر والجمال. ثم أين، في أي مكان من العالم، كنت تجد الزعامة في يد سيدة، مثل نظيرة جنبلاط، مولودة في القرن التاسع عشر، فيما لم تقترع المرأة الفرنسية إلا العام 1945.
كانت المسألة على الدوام، العلاقة بالحضارة. ترك بونابرت مجموعة كبيرة من الهزائم، وانتصاراً دائماً في القانون. هذا كل ما بقي من امبراطوريته، والباقي تحول إلى كتب يجمعها هواة تاريخه والقادرون على الطبعات الأولى. إحدى أهمها في العالم، موجودة عند ايلي خليل.
تبدو مذكرات شوقي ابي شقرا مثل قاموس للأسماء التي صنعت ألق لبنان قبل أن يُسحل إلى الحرب: محمود درويش القادم من الجليل، ويوسف الخال القادم من وادي النصارى، وأدونيس القادم هو ومحمد الماغوط من سوريا الكبرى، والبياتي الآتي من دجلة، والكلاسيكيون الذين لا يتوقف عندهم طويلاً لئلا يرشقهم بالحصى. فالذي يتذكر هنا هو الشاعر، لا الناقد. وعالمه أشبه ما يكون بعالم “والت ديزني”، الصاعقة فيه لا تؤذي والفجرُ جمال. وكما في شعره، كما في نثره المائل بخطورة نحو الشعر، لا يلامس شوقي المخالفة عملاً بوصايا الأم وهي تودّعه كل صباح إلى المدرسة: إذهب خاسراً كطفل، ولا تعد رابحاً كألم.
بدأ الوجه العربي الحضاري بالتهدم في بيروت. دُفع الشعراء والكتّاب والموسيقيون والرسامون والمفكرون جانباً، وتدافع الخشنون والمرعبون من كل صوب. أوقفوا أنسي الحاج على جدار، وهموا بفتح الرشاشات عندما مرت امرأة لم تعرف من هو من ظهره، لكنها اشفقت على نحوله ورجفة العصفور فيه، فنهرت القتلة. صارت صورة العرب المرهفين ذكريات. صفحات تبرق من خلف التاريخ. من القاهرة إلى بيروت، شريط مصور في سينما صامتة. غاب الرجال، وبهتت المدن والحزن أمير الديار. ذات زمن كنا واحة العرب ومدرسة قانون روما. واليوم، مررت بديار ليلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “النهار” اللبنانية