كتَـــــاب الموقع

محكية بلا ضفاف

المهدي التمامي

منذ أن قرأتُ الشاعر المحكي الصيد الرقيعي في مجموعته الأولى (عيون سالمة)، وأنا أقتفي أثره الشعري المدهش من خلال مغامرته التجريبية الفذة، وعلى الرغم من العنوان المباشر لتلك المجموعة، إلا أن بناء القصائد الداخلي كان مختلفاً، من حيث الصور التي قامت على أنقاض الصور النمطية المتواترة، وتقنية التواشج الخفي بين اللهجة والفصحى، في انحياز كامل لمغامرة المجاز الناقل لهذا الضفيرة إلى أفق مفتوح على القراءة والتأويل..

متجاوزاً بهذا الخلق الجديد للقصيدة اللغة الوسطى التي اعتمدها سابقوه من الأقطار الأخرى، لأنه صار ينظر إليها شيئاً من التراث.. من هنا استطاع خلخلة النسق السالف واعتيادية الصور الموروثة.. ليصل هذا التطور ذروته في مجموعتيه التاليتين (في غفوة السرداب) و(فطام العراجين).. هذان العنوانان الدائبان في أبد الدهشة.. فمن خلالهما استطاع الشاعر أن يؤسس وجداناً قرائياً بعيداً عن السطوة المنبرية ولغة الجسد والركحية عند شعراء المحكية الآخرين الذين ظلوا وقتاً طويلاً تلاحقهم ظلال الشعر الشعبي والبناء الغنائي المهذب.. فصارت قصيدته بفضل ذلك السحر الجديد الذي زرعه في ذائقة المتلقي تحتل مكانها المهم، كنص صالح لتفعيل كافة الاتجاهات النقدية بقصد إضاءته وتشريحه.. بل إن قصيدة الصيد الرقيعي صارت تنافس النصوص الحديثة كقصيدة النثر، وصار الرقيعي نفسه يتفوق على أغلب شعراء القصيدة الحديثة بما يمتلكه من حساسية نقدية كان لها الفضل في إثراء إبداعاته المحكية مدعمة بتجربة يسارية قصيرة، وقراءات عميقة للأدب المحلي والعالمي بفضل الخلفية الأكاديمية، حيث درس الرقيعي الأدب العربي في جامعة قاريونس عكس الشعراء الآخرين الذين تحولوا تدريجياً من الشعر الشعبي واللون الغنائي إلى القصيدة المحكية. جدير بالذكر هنا، أن تجربة الصيد الرقيعي المحكية فتحت الباب أمام عدد من شعراء قصيدة النثر ليخوضوا إغراءات هذا اللون الإبداعي الجديد الذي قربه إليهم الرقيعي بعدما أنضجه على موهبة حارقة اخترقت طمأنينة الذوق الأول دون أن تغفل قيم الجمال والفن والمتعة التي يرتكز عليها جوهر الإبداع.

حتى الآن، مع كل نص جديد ينجزه الصيد الرقيعي، يخلق بريقاً ولذة تخالف الفعل المعهود لتذوق الشعري المحكي، لأن الرقيعي هنا يعتمد على تجربته القرائية الشخصية وتفاعل ذاته من تلك القراءات، في محاولة دائبة للبحث عن هويته المخفية في الهوية المشتبكة، مبتكراً تركيباً كيميائياً له القدرة على صهر كل الرموز والحكايات في توتر محموم يتجلى في تشنجات النصوص القصيرة ذات التكثيف الفائق التي اعتاد نشرها عبر صفحته على فضاء (الفيس بوك) من دون عناوين، وهذه أيضاً دلالة على أن الصيد الرقيعي يمتح من مغترف مرمز بلا ضفاف تطبعه سمة واحدة مشفرة تستعصي على الفك.. مما يجعله يستأنس نشرها هكذا كيفما تخلقت في سردابه الغافي ليؤكد على مقولة باشلار بأن الخيال نشاط ليست له جذور في كيان الشاعر، إنما هي في مكان آخر. أو كما يقول كانط بأن الفن يستمد جماله من اللازمان..

كما نلاحظ عند أغلب الشعراء المحكيين لا وجود للكلمة إلا عبر الصوت، الصوت الذي يعبر الأحاسيس من خلال إيحاءاته الخصبة.. لكن الشفاهية عند الصيد الرقيعي تظل وسيلة للمجاهرة بالشعر كمرحلة أولى، ومن ثم كتابته، ليصل منتهاه الطليق عبر التدوين معتمداً على الإدراك البصري في تجزيئته التي تعاود تشكيل البناء من جديد، فالإدراك البصري كما هو معروف، نتاج لبقية الحواس مجتمعة، وضفيرة لصفات الحواس فيما بينها.. وهي تفصح عن الدهشة المستدامة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى