محاكمتي. الخامسة (2)
سعدات حسن مانتو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
هذه هي المقالة الثانية التي كتبها مانتو عن محاكمته بتهمة الفحش. لقد كانت المرة الأخيرة التي تزعجه فيها الدولة. لأنه سرعان ما مات بعد المحاكمة، ونشرت المقالة بعد موته.
(معد ومترجم الكتاب إلى الإنغليزية)
في المقالة السابقة بدأت الكتابة عن هذا الموضوع، إلا أنني لم أتمكن من إنهائه، لأنني كنت فعلا على غير ما يرام. الواقع أنني مازلت على غير ما يرام وأشعر أنني سأظل هكذا دوما. البعض يقول أن هذا المرض يُعَرِّفني، يعنون جنون كتابتي.
بعد أن كتبت المقالة الأولى، نشر السيد طفيل، رئيس تحرير المجلة ومالكها، مقالة باسمه عنوانها “السيد مانتو”. على أساس هذه المقالة كتب أحمد نديم قاسمي، الذي لسوء الحظ عين رئيس تحرير “إمروز”، عني مقالة بعنوان “الناقد”
مقالة السيد طفيل، في رأيي، شخصية جدا بالنسبة إليَّ. فبعض الأشياء التي كتبها ما كان ينبغي أن تعلن. إذ لا إنسان يخلو من جوانب ضعف. ولكن لماذا يعرضها على الملأ؟. صحيح أن مباذل الكتاب والفنانين الشخصية دائما محل إثارة لأنها تكشف بعض جوانب شخصيتهم. ولكن ما الغرض من هذا الكشف حين يعرض الكاتب إلى العار؟.
عند التدقيق، نجد أنه من الواضح أن أيا كان ما كتبه السيد طفيل لم يكن مقصودا منه أن يسبب هذا. إلا أنه، على أية حال، ذكر في مقالته المشحونة عاطفيا أشياء ما كن ينبغي أن تذكر، أو أن تذكر على ذلك النحو.
إثر قراءتي المقالة، كتبت له هذه الرسالة:
يا أخي، السلام عليكم.
أخبرتني صفية البارحة أنك كتبت مقالة عني. لم أتمكن من قراءتها بشكل مناسب، لأنني كنت ثملا جدا. أعجبت صفية بالمقالة، ولذا قرأت عليَّ فقرات منها. وجدت فيها استفزازا. أطلقت عليك وابلا من الشتائم، وهذا ساعدني على النوم.
عندما قرأتها في الصباح، أعجبت بها فعلا. لا أنكر أن ماكتبته حقيقي. وسعدت أنك لم تتردد في كتابة ما كتبت عني، وأيا ما كان حضوري في مقالتك – وثمة أشياء قد تكون ماثلة فيَّ، إلا أنني لا أشعر بها.
مودتي
سعدات حسن مانتو
لا أريد قول شيء آخر عن المقالة، فلا يمكن الهروب من الحقيقة. إذا كنت أشرب، فلا يمكنني إنكار ذلك. إذا اقترضت نقودا من أحدهم فهذا حقيقي أيضا. إذا نُظر إليَّ بسبب هذه الأشياء على أنني إنسان سيء فهذا حسن. فلو أنني انشغلت بوجهة نظر الناس حولي ما كنت لأكون مؤلف مئة قصة.
بعد أن قرأ السيد قاسمي المقالة كتب في مقالته: حقيقي أن مباذل الكتاب والفنانين الشخصية مثيرة للاهتمام دائما وتكشف أشياء عن طبيعتهم. ولكن ما الغرض من هذا الكشف إذا كان يعرض الكاتب إلى العار؟.
لا أعرف ما إذا كانت مقالة السيد طفيل ألحقت بي العار. على أية حال، فلأواصل قصتي. لعلكم تعلمون من قراءة مقالتي السابقة أن هذه هي المرة الخامسة التي أحاكم فيها بتهمة الفحش.
وصلت أنا وصديقي ناصر أنور محطة لاهور. كان السيد طفيل قد اشترى لنا التذاكر، بقي علينا الآن الحصول على مقاعد. كانت هناك أيضا مشكلة ما نحمله من زجاجات الجعة التي تحتاج بدورها إلى مقعد ولم يكن يوجد لها مكان.
المقصورة التي كنا بها كان يوجد بها أيضا رجل دين. كان يحرك حبات مسبحته كما لو أن الأمور لن تكون مريحة. لأحل المشكلة قلت لناصر: “ناولني زجاجة جعة”.
مد يده تحت مقعده، وفتح زجاجة وناولني إياها. رجل الدين غادر عند المحطة التالية، وهو يحرك حبات مسبحته. هذا يذكرني برجل وزوجته في محطة لاهور دخلا مقصورتنا، وبمجرد أن بحثا عن مقاعد لهما، قلت للرجل: “انظر أيها السيد، نحن نشرب. نحمل خمس عشرة زجاجة جعة. سنثمل ونقول كلاما سيئا. من الواضح أنك رجل طيب، ويبدو أن معك زوجتك. من الأفضل الذهاب إلى مقصورة أخرى”.
الآن وأنا أكتب هذا، تذكر السيد طفيل، الذي جاء ليتحقق من أننا ركبنا القطار، شيئا ما. ذلك الرجل وزوجته المتبرقعة ذهبا إلى مدير المحطة وأخبراه عن الوغدين في مقصورتهما. فوجيء مدير المحطة وقال له إنك تتحدث عن سعدات حسن مانتو الرجل الذي في غاية التهذيب.
قال الرجل: “كلا يا سيدي. ذلك الشخص عرف بنفسه على أنه ثمل”. على أية حال، يبدو أنهما حصلا على مقعدين في مكان آخر وتخلصنا منهما.
كانت الرحلة إلى كراتشي مقرفة، حتى في الدرجة الثانية. كانت المقصورة مليئة بالغبار. الجعة جعلت الأمر محتملا.
سألت عن فندق تمكن الإقامة فيه، ولكن كالعادة، لم تكن معي نقود. وعلى أية حال أصرت زوجتي قائلة: “ينبغي أن تقيم عند أخي”. تأملت قولها، وهكذا أزحت العالم كله جانبا وذهبت إلى أخ الزوجة.
كان رجلا محترما، ذا وظيفة جيدة ويمتلك شقة واسعة. استقبلنا بدفء بالغ وأسكننا أنا وناصر في الشقة المحاذية لشقته.
ليست لديَّ الرغبة في البقاء في كراتشي. فبعد العيش خمس عشرة سنة في بومباى لا يعني لي هذا المكان شيئا جديدا. اليوم التالي ذهبنا إلى المحكمة. كانت مبنى عاديا حيث كان يجلس قاضٍ إضافي للمنطقة في حجرة صغيرة.
كنت قد واجهت محاكم في لاهور وكنت معتادا على عاداتها وثقافتها. ما يعني أنني أعرف أنها أمكنة تخلو تماما من أية ثقافة. وقفت أمام القاضي عاقدا يديَّ على صدري. نظر إليَّ وسأل: “ماذا تريد؟”.
ذهلت لدماثته. قلت: “سيدي، اسمي سعدات حسن مانتو. أنتم استدعيتموني بسبب مقالتي “فوق، أسفل وما بين” بتهمة الفحش بمقتضى الفصل 292.
قال: “اجلس”. لم أكن متأكدا ممن طلب الجلوس، لذا ظللت واقفا.
عندما لاحظ ذلك قال: “اجلس من فضلك، مانتو صاحب”. أخذت كرسيا مواجها لمكتبه. بعد برهة قال لي: “لماذا لم تأت إلا الآن؟”.
قلت أنني لم أكن على ما يرام.
قال: “كان يمكنك إرسال شهادة طبية، بالتأكيد”.
كذبت: “كنت عاجزا حتى عن فعل هذا”.
سمعني وصمت. بعدها قال: “ماذا تريد أن تفعل هنا؟”.
واضح أن ما أرغب فيه هو التخلص من هذه المشكلة اللعينة. فكرت أيضا في السيد طفيل الذي دفع الكفالة وكان عليه أن يضمنها من خلال قدومه في الصباح الباكر ومعه تذكرتان بالدرجة الثانية.
قلت للقاضي: “أطلق سراحي. أريد العودة إلى البيت”.
أجاب: “لا يمكن حدوث هذا حالا. مازال عليَّ أن أقرأ مقالتك. إن شاء الله، سأقرأها اليوم وأقرر غدا”.
ودعناه أنا وناصر وذهبنا لتناول بضع زجاجات جعة. استقللنا عربة دراجة نارية، وهي شيء أحبه. تصدر صوت فط فط، تستغرق دقائق في رحلة قد تستغرق ساعات. كما أنها لم تكن مكلفة.
اليوم التالي عدنا إلى المحكمة. رد القاضي على تحيتي وطلب مني الجلوس. هذه المرة جلست على مقعد. أخرج ورقة وقال: “لقد كتبت الأمر”.
نظر إلى مساعده وسأله: “ما هو تاريخ اليوم؟”. أجابه المساعد “خمسة وعشرون”.
أنا سمعي ثقيل بعض الشيء واعتقدت أنه غرمني ذلك المبلغ. غرامة خمس وعشرين روبية تعني أنه لا يمكنني الطعن وستظل إدانتي قائمة.
“سيدي خمس وعشرون روبية غرامة!”. قلت له.
أعتقد أنه فعليا غرمني خمسمئة روبية، ولكن عندما سمع الانزعاج في كلماتي، ابتسم وحولها إلى خمس وعشرين
أخرج ناصر المبلغ من جيبه قائلا: “لقد نجوت بسهولة. فمسألة الطعن لن تجلب إلا مزيد من المتاعب. تتذكر المحاكمة بشأن ‘‘لحم بارد‘‘؟”
تذكرت – وارتجفت بسبب هذه الذكرى. حمدت الله على أنه نجاني من هذه القضية بسهولة.
ونحن نغادر قال القاضي: “متى ستغادر؟”. أجبت “ربما اليوم”.
“لا تذهب اليوم”، قال. “أريد أن أقابلك”. اعتراني القلق. لماذا يرغب في اللقاء بي الآن؟.
“يمكنني الانتظار حتى الغد”. قلت. سأل أين يمكننا أن نلتقي عند الرابعة بعد الظهر. ذكرت له أسماء الحانات التي كنا نرتادها، لكنه لم يكن يشرب، وهكذا اتفقنا على اللقاء في مقهى. وصلنا متأخرين خمس عشرة دقيقة.
كان القاضي هناك. تحادثنا. بعد برهة قال لي بكثير من العاطفة: “سيد مانتو، أنا أنظر إليك على أنك واحد من الكتاب العظام في زمننا. لا أريدك أن تعتقد أنني لست متعاطفا معك”.
ذهلت. “إذن لماذا غرمتني؟”.
ابتسم: ” سأعلمك بعد سنة”.
مضت بضعة أشهر الآن، وبقيت بضعة أشهر أخرى. لنرَ ما سيكشف عنه القاضي، الذي يبدو أنه رجل يلتزم بكلمته.