محاكمتي الخامسة
سعدات حسن مانتو
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
المحاكم في الهند البريطانية أدت وظيفتها بشكل أفضل مما تفعله الآن. بالنسبة إلينا ذلك الوقت بعيد. أما مانتو فقد تعرض إلى المتاعب عند خروج البريطانيين المفاجيء. وفي باكستان الناشيء حديثا واجه قوانين أخلاقية مختلفة تماما، تديرها دولة غير متسامحة. وعلى الرغم من أن مانتو حوكم مرات في الهند البريطانية بتهمة الفحش، فإن متاعبه القانونية أصابته باليأس فقط بعد الاستقلال.
(معد ومترجم الكتاب إلى الإنغليزية)
سبق أن حوكمت أربع مرات بسبب كتاباتي. والآن بدأت المحاكمة الخامسة، وأردت أن أنقل إليكم ما حدث وكيف جرى. القصص الأربع الأولى التي لفتت نظر القانون كانت التالية: “السراويل السوداء الضيقة”، “دخان” ، “العبق”، “لحم بارد”، ومقالة: “فوق، أسفل وما بين”. بسبب “السراويل السوداء الضيقة” كان عليَّ السفر من دلهي إلى محاكم لاهور ثلاث مرات. “دخان” و “عبق” أتعبتاني أكثر، لأنه كان عليَّ أن أسافر من بومباى إلى لاهور. إلا أن “لحم بارد” فاقتهما، حتى عندما جرت هذه المحاكمة وأنا في الباكستان ولم يكن علي أن أسافر بسببها. ما من رجل حساس، وأنا أعتبر نفسي واحدا منهم، يمكنه أن يمر بهذه التجربة دون ندوب. المحكمة مكان تحدث فيه جميع أنواع الإذلال، وحيث ينبغي معاناة ذلك في صمت. وأنا أبتهل من أجل ألا يذهب أحد إلى مكان نسميه محكمة. لم أرَ مكانا أغرب من ذلك. وأعترف أنني أكره الشرطة. لقد عاملوني دائما بالازدراء الذي يحتفظون به لأسوأ أنواع منتهكي القانون
.
على أية حال، بدأ ذلك مؤخرا عندما نشرت مجلة في كراتشي مقالي “فوق، أسفل وما بين” بدون إذني. نقلوه عن صحيفة في لاهور، وبعد ذلك مباشرة أصدرت حكومة كراتشي إذن قبض بحقي. لم أكن بالبيت. ضابطا تحقيق وأربعة ضباط شرطة من أدنى الرتب حاصروا البيت. قالت لهم زوجتي: “مانتو غير موجود. سأستدعيه إذا رغبتم”. لكنهم كانوا يصرون على أنني في الواقع كنت مختبئا بالداخل وأنها كانت تكذب. حينها كنت في مكتب شودري ناظر أحمد صاحب مجلة سافيرا.
كنت قد شرعت لتوي في كتابة قصة وكتبت منها حوالي عشرة أسطر حينما وصل رشيد، أخو شودري ناظر أحمد. بعد لحظات سألني: “ماذا تكتب؟”.
“بدأت قصة للتو”. أجبته مضيفا: “يبدو أنها ستكون طويلة”.
“جئت لأنقل إليك خبرا سيئا”. ثم أكمل: “الشرطة حول بيتك تبحث عنك. يعتقدون أنك بالبيت، ويحاولون اقتحامه”.
صديقاي، أحمد راحي وحميم، أختار كانا معي. انزعجا، وهكذا غادرنا جميعا وركبنا عربة تونغا*. قبل مغادرتنا طلبنا من تشوندري رشيد الاتصال بكل الصحف كي ينشروا اليوم التالي ما يمكن أن يحدث اليوم.
عندما وصلنا، وجدنا رجال الشرطة خارج الشقة. كان ابن أختي** حميد جلال وصهري زهير الدين يقفان بجانب سيارتيهما. كان يقولان لرجال الشرطة “اسمعوا، إذا كنتم مصرين على تفتيش البيت، افعلوا ذلك. ولكن صدقونا حين نقول لكم أن مانتو ليس بالبيت”.
رأيت أيضا عبد الله مالك يتحدث مع بعض رجال الشرطة. كان شيوعيا، ولكنه شيوعي “زائف”. علمت أن ضابطي التحقيق هددا زوجتي وأختي باقتحام البيت عنوة. وعندما شاهداني أدخل العمارة هدآ.
دعوتهما إلى الدخول.
ظل ضابطا التحقيق متجهمين. حينما سألتهما عما يريدان، قال بأن لديهما إذنا من كراتشي بتفتيش بيتي. ذهلت. فأنا لست جاسوسا أو مهربا أو موزع مخدرات. أنا كاتب. فلماذا بحق الله تحتاج الشرطة إلى تفتيش حرمي؟. ما الذي يتوقعون العثور عليه؟. سألاني: “أين مكتبتك؟”.
قلت أن مكتبتي هنا في باكستان قوامها بضعة كتب فقط، بما في ذلك ثلاثة قواميس. الباقي تركته ورائي في بومباي. وقلت لهما “إذا كنتم تبحثون عن شيء محدد، بإمكاني إعطاؤكم عنواني في بومباي”. تجاهل الضابطان ذلك وشرعا في تفتيش بيتي.
صحيح أنه كانت توجد حوالي ثماني زجاجات جعة فارغة، إلا أنها لم تسترعِ الانتباه. كان ثمة صندوق صغير يحتوي أوراقا. فتشت الشرطة كل قصاصة. كانت توجد بعض الملفات بها قصاصات صحف. استولوا عليها. عند هذه النقطة طلبت منهما إطلاعي على الإذن الصادر من حكومة كراتشي.
رفضا منحي إياه، وبدلا من ذلك أمسك به أحد ضباط الشرطة من بعيد قائلا “هاهو”. سألته “ما هذا؟”. “هذا هو الشيء الذي جاء بنا إلى هنا”.
عندما أصررت على الاطلاع عليه، أمسكه بكلتا يديه بقوة ورفعه قائلا “اقرأه”. مسحته بنظري بسرعة، فعلمت أن الإذن يطلب، إضافة إلى التفتيش، القيام باعتقالي.
وسرعان ما ذهب بي التفكير إلى الكفالة. كان الضابطان عنيدين ورفضا القبول بأن يكون أحد الحاضرين كفيلا. على الرغم من أن ابن أختي كان موظفا كبيرا في الدولة وكذلك صهري. “أنتما موظفان في الحكومة” قيل لهما، “ويمكن أن يؤدي ذلك إلى فصلكما”.
على أية حال، اعتقلت ثم حصلت على كفالة وعليَّ الذهاب إلى كراتشي لمواجهة محاكمة أخرى. في الحالات السابقة، قدمت تقريرا طبيا بأن حالتي الصحية لا تمكنني من حضور المحاكمة، إلا أن هذا انتهى الآن.
ملاحظة مهمة: بحثت عن كفيل لكن لا أحد من أصدقائي كان يمكن العثور عليه في بيته. في النهاية، ذهبت إلى موهد طفيل، الرجل الطيب الذي كفلني. كان صاحب ورئيس تحرير صحيفة ناكوش. باع كل ما يملكه من كتب بقيمة 5000 روبية.
ملحوظة مهمة أخرى: دفع طفيل صاحب قيمة الكفالة، ولكنه لم يكن واثقا من أنني سوف أحضر المحاكمة. الواقع أنني لا أمتلك ما أشتري ما أسمم به نفسي حتى لو رغبت، ناهيك عن تكاليف الرحلة. جاء طفيل صاحب إلى سكني في اليوم الذي عليَّ فيه الذهاب إلى كراتشي الخامسة صباحا. أحضر معه تذكرتي سفر بالدرجة الثانية بالقطار. وقد أرسل معي صديقي ناصر أنور كي يضمن ذهابي إلى كراتشي. أركبنا تونغا وبقي على الرصيف إلى أن تحرك القطار.
* عربة تجرها الجياد أقرب ما تكون بالكروسة.
** اللفظة الإنغليزية nephew تعني ابن الأخت وابن الأخ.