مجانين الكوميك كون
مدونة فاصِلة
منذ بضعة أشهر صدر كتاب أثار جدلًا إعلاميًّا، بسبب بضعة أسطر في صفحة أو صفحتين، واتُّهِم كل الكُتَّاب والكاتبات المشاركين فيه بالفُجر والفسوق، لا لشيء إلا لأنه قد احتوتهم دفتي نفس الكتاب، نعق الناعقون، وهددوا متمترسين خلف ألواح مفاتيح هواتفهم وحواسيبهم، وتمت مصادرة الكتاب ومنعه.
واليوم يتكرر المشهد في مواجهة ظاهرة ثقافية اعتيادية في كل دول العالم المهتم بالفن؛ ولكنها حديثة جدًّا في مجتمعنا؛ معرض عالمي سنوي يهتم بهواة القصص المصورة، ثم اتسع ليشمل متابعي الأفلام السينمائية والمسلسلات المستوحاة من تلك القصص المصورة، وألعاب الفيديو، يسمونه عالميًّا comic con، ويسمونه عندنا -حسبما شاهدت- عيد الهالوين! نعم يا سادة، لقد ظن فقهاء وعلماء الفيسبوك بأن ثلة من الشباب المتنكّرين في أزياء شخصياتهم الكرتونية الشهيرة والمفضلة لديهم إنما يحتفلون بالـ”هالوين”! هذه حقيقة وليست دُعابة.
أقول دعابة لأن “الكوميك كون” في الأساس كان عبارة عن تجمع لهواة القصص المصورة الأمريكية ومجمعيها في ستينيات القرن الماضي، ثم ما لبث أن تحول التجمع إلى مهرجانات ومعارض دولية، واتسع ليشمل الصناعة اليابانية للـ”مانجا” والـ”أنمي”، كذلك الأفلام والمسلسلات المقتبسة من القصص المصورة التي لأجلها تكون هذا الحدث، واتسع لاحقًا ليضم حتى ألعاب الفيديو وهواة الرسم والتنكر وتجميع الألعاب المتعلقة بهذا الشأن، هذا ما عرفته من بعض المهتمين وبقليل من البحث على محرك البحث الشهير الذي لا يعرف الكثيرون استخدامه إلا في البحث عن صور هيفاء وهبي وهي تسقط من فوق المسرح! ثقافة مستوردة؟ نعم، كالأجهزة التي تقرأون عبرها هذا المقال، كالمناهج الدراسية ومعارض الكتاب والأطعمة السريعة!
أما الهالوين يا سادة، فلا؛ لن أحكي تاريخ الهالوين ربما لاستفزاز البعض ودفعه لاستكشاف محركات البحث، سأكتب عن “هالويننا” الخاص، نحن لسنا بحاجة للاحتفال بعيد الرُّعب هذا؛ لأننا ببساطة نحتفل به يوميًّا في بلد يموت فيه الناس مجانًا، في بلدٍ أدمن ظلاميوه المتمترسون خلف “كيبورداتهم” رائحة الدم وطعم دموع ساكنيه، بلد الزومبي، وربما لهذا السبب تحديدًا يحاربون أي مظهر من مظاهر الفرح، كهذا المهرجان الذي يؤمه مجانين رائعون حقًّا، مجانين لأنهم يؤمنون أنهم يملكون الحق في البهجة وسط كل هذا الخراب.
ولكن لماذا يحدث هذا اللغط وسوء الفهم مرارًا وتكرارًا؟ باعتقادي أن ردود أفعال كهذه هي في الواقع سمة من سمات المجتمعات النمطية، التي تعاني من دخول التمدن إليها بالمقلوب؛ فالتكنولوجيا في كل بيت؛ ولكن العقول لازالت تقيس بموازين العصر الحجري! ليس في وقتنا المعاصر فحسب، بل على مر العصور والأزمان. فن المسرح في يوم من الأيام كان ضربًا من ضروب رجس الشياطين، و أول مؤسسي هذا الفن “أبو خليل القباني” قوبل بأقذع صفات القذف في مجتمعه بعد أن استعان بصبية صغارًا لأداء أدوار النساء في مسرحياته، وقد كان المجتمع السوري آنذاك -كغيره من المجتمعات الشرقية- يرى في كل ما يتعلق بالمرأة عورة، من صوتها وانتهاءً بأظافر قدميها، فلم يجد ذلك الرجل الشغوف بالفن المسرحي والقصصي إلا الاستعانة بالأطفال بديلا عن النسوة؛ ولكنه لم يسلم من التشهير الذي طال اسم عائلته وحل عليهم كاللعنة! بالرغم من هذا لم يسمح للظلام باقتحام روحه، واليوم، يعتبر اسمه علمًا من أعلام المسرح السوري والعربي.
في تعليق على الصفحة المنظمة لهذا المهرجان بطرابلس، كُتب: “انتظروا الطرق على أبوابكم”، أتمنى أن يطرق النور أبوابنا، وأن تتسلل البهجة إلى شوارعنا وتنتشر كالوباء، ربما هذا ما يحتاجه وطن نال منه طاعون القذف والتشهير والكراهية ما يكفيه لعقود.