(مجازفة الاكتناه)
المهدي التمامي
جئت من (فزان) في نهاية التسعينيات أحمل بين توقي وأشواقي الأسماء اللامعة للمبدعين في طرابلس.. كان المبدعون في العاصمة بأسمائهم الباذخة يمثلون لي كوكبة من الخلاص والأمل والبهجة والألق، خصوصاً التشكيليين، الذين كنت أرى فيهم منتهى الخيال الحر.. مندهشاً من هذ القدرة الابتكارية التي يتمتعون بها.. لكنني كنت موسوساً بالشعر أكثر من أي فن آخر.. أقبض عليه وهو يلتهب، لأقيم به وجوداً على حافة الشعر.. لم يعد ممكناً لي أن استمع إلى أي نوع من الكلام الآخر.
كنت أرعى (قطيعي المضيء) بعيداً عن الحشد الشمالي الشهير، وكان من الصعب آنذاك، في الجنوب، التكيف مع ذائقة أكاديمية منغلقة ترى في ما أكتب خروجاً عن الشعر والأخلاق أيضاً.. تأكدت حينها أن الشعر “معرفة غير مكتنهة”، لا يأتي من مطالعة الكتب السميكة التي أجهدت بها عيني في غرفتي المضاءة حتى آخر الليل هناك في الصحراء، في (سبها).. وأيقنت أن عليّ أن أؤسس وجداناً قرائياً في مكان آخر..
كنت أعرف أنني لم أخلق للاختباء؛ ومع هذا كنت مختبئاً في خجل فارط عند انتقالي إلى العاصمة.. في تلك الأثناء كنت أرافق المبدع المتعدد.. رضوان بوشويشة، (الظاهرة الرضوانية) كما كان يصفه الصديق الرائع حسين المزداوي.. كان رضوان يقول لكل من نلتقيه: أنظر، هذا جيلاني جديد، في إشارة إلى الشاعر الراحل (الجيلاني طريبشان).. ثم لأتحول إلى “كائن سماوي” على يد البعض الآخر.. لأنتظم في ذلك الاشتهاء الطرابلسي كنكهة جديدة لها مذاق “تاليس فزان”.
هذا ما آمنت به مع صاحب (الأثر المفتوح) الذي يرى أن استعمال الأخلاق والغرائز في معناها الخلاعي لا يوصلان إلى التأمل الجمالي.. يحايثه قول آخر للشاعر الإنجليزي (كولردج) يرى فيه أن الإحساس بالجمالي يوجد في النية التلقائية للعلاقة بين الأجزاء، بشكل مطلق ودون تدخل، متعلقاً بين الحواس والعقل. من هنا سأستعيض عن حيرتي في استكناه “السر الشعري” كما يسميه “البردوني”.. بهذا السؤال:
ما هو الشعر؟
إنه سؤال مربك، وحتى الآن لا أتذكر أنني قرأت تعريفاً قاطعاً للشعر. الشعر هو الذي يعرف نفسه، القصيدة وقدة… اشتعال… ترى بالذائقة الحرة، وهذا يذكرني بمقولة للفنان التشكيلي (علي الزويك)، وقد تشكل مخرجاً من هذا السؤال المربك “النص شفاعته فيه يا تمامي”.. يبقى الشعر لحظة مواجهة.. استعادة لما تفقده الذات من صفاتها.. “هنا تأتي القصيدة كنوع من الحلول الممكنة لاسترداد ما ضاع منها” كما يقول (بول ريكور).. إنه الفن الحميمي الذي يصهر كل الفنون في التناغم الأقصى.. ربما هو مفتاح السر الذي استعان به أصحاب الأعمال الخالدة.. كونه “يرتبط بعلاقات تبادلية في الخطاطة البنيوية للكل”.
إنني كلما استمعت إلى هسهسة مثل هسهسة اللغة الشفافة؛ تنتابني رجفة خاصة، أتجرأ على الشعر.. أعثر على الكلمات المشرقة؛ لأكون بين يدي القصيدة… هذه النشوة الغريبة تجعلني ثملاً مع اللغة في هيامها الشعري.. وهي نشوانة بخطيئة الجمال، الذي هو “متعة إلى الأبد” كما يقول (كيتس)…رغم هذا الهلع الذي يقود وعينا إلى “الرقصة المجنونة” لتعاقب العمر…!
كأن كل شيء يتنفس شعراً، أو كأن الشعر يتنفس في كل شيء.. مما يستهويني أن أصير نبيئاً؛ رائياً لا تجانفه الإشارة.. هكذا أعيش هذا اللاوعي المزهر كطفولة الفرح.. أصير “كياناً من النور” أو “نقطة عليا” كما يقول (بريتون).. وما علينا إلا أن نعيد الزمن المفقود، الزمن الذي ينبت حول إشراقة القصيدة… حيث تعيش اللغة حياتها الحقيقية وهي تغادر مستقرها الآمن.. مجازفة الاكتناه عطش.. السراب سقف الشغف.. عبور في العبور.
تعال أيها الشعر لنلثم شفة الخلود؛ لتشهق على حافة الموت المضيء أرواحنا.. فلا شيء يساوي تعب الحياة؛ المتمثل في أعماق الخطايا والضلالات في هذا الواقع المسمى بؤساً.. سوى القيم السامية كالحب، والأمل، والأحلام.. أن نحيا بعيداً عن المظهر العاقر.. أن تنخنس أناشيدنا في بصيرة القول…