متلازمة “الشراقة والغرابة”
أنيس فوزي
يبدو من العيب أن أبدأ حديثي مؤكدا على وحدة ليبيا، فهذه حقيقة مفرطة في البداهة، سواء تاريخيا أو قانونيا بموجب قرار الأمم المتحدة. ولكن لابأس من التذكير بها الآن أمام موجة العنف اللفظي المتبادل بين سكان غرب وشرق ليبيا. وهي على كل حال مسألة اجتماعية معقدة غارقة في القدم، ولها الكثير من الشواهد، التي وإن كان بعضها واضحا ومقنعا، مثل غطرسة الدولة المركزية، إلا أنها لا تكفِ كلها لطلب التقسيم. فإذا كان معمر القذافي قد اختار بنغازي عاصمة له، فإن أهل الغرب كانوا سيعانون مثل هذه المركزية تماما. وتوظيف المسألة كحرب بين “الشراقة والغرابة” هو توظيف خاطئ وفيه الكثير من السطحية.
لكن ما أريد توضيحه هنا، عندما يقال إن هذه الأرض وطن واحد، لا يعني أبدا أنه لا توجد بها اختلافات وصراعات، بل من الضروري وجودها، مثلما تختلف الأمزجة في كيان الشخص الواحد، والوحدة لا تُصنع مع الطبيعة ولا توجد دولة في العالم خلقت على شكل حدودها المرسومة اليوم، وإنما يصنعها الواقع والكثير من الاعتبارات التاريخية. فبأي منطق يرى الانقساميون بعد كل هذه السنوات أن التقسيم الآن هو الحل؟ وما هي الدولة التي تم احتلالها أو انتزاعها لتطالب بعد أكثر من نصف قرن بالاستقلال عنها؟ والسؤال الأكبر هو: الاستقلال عن من؟
إن الكثير ممن يدْعون إلى “التقسيم” -وهو أمر مختلف عن النظام الفيدرالي-، يعتقدون أن الوطن يعني تشابه المواطنين في كل شي، شكل اجتماعي غريب سجّلوا فيه براءة اختراع، حيث يكون سكان المنطقة المعينة بأكملهم كأنهم شخص واحد، أصحاب رأي وفكر وتوجه واحد، وملبس ومأكل وممشى واحد، لا أحد منهم يحيد عن الطريق، مما يجعلهم جاهزين للمطالبة باستقلال وإنشاء كيان جديد بأعينهم المعصوبة. وهذا التصور الملائكي، النابع من تفسير خاطئ للذات والمجتمع الذي ينتمي إليه، مثير للسخرية. إذ لا يوجد مكان في العالم تنطبق عليه مثل هذه الشروط سوى حظائر الحيونات الأليفة.
ولعل الكثير من أزمات أي إقليم أو مدينة نابعة من تصرفات أفرادها وقبائلها أولا، لكن النزعة المتطرفة تجاه العرق والمكان تعمي الأبصار وتجعل المنطق ضئيلا وتسرف في المبالغة والفجور في الخصومة. والحقيقة تقول إنه في ليبيا بالذات، علاقة القبائل داخل الأقاليم نفسها مرعبة للغاية، والحروب التي حصلت بين القبائل “شرقا وغربا وجنوبا” كانت تستمر لسنوات وسنوات، والمخيف أنها توقفت من دون إيجاد أي حلول، ومن المرجّح عودتها في أي وقت. وربما علاقة القبائل من أقاليم مختلفة أكثر قربا ورحمة ومودة فيما بينها، من قبائل الإقليم الواحد وصراعاته.
هذا فضلا عن تجاوز الآباء المؤسسين لهذه الخلافات عندما وجدوها غير مقنعة ومعرقلة للاستقرار والمستقبل وتجعل مهمة أي عدو سهلة ومواتية للتحقق. فعندما كان إدريس السنوسي وعقلاء برقة يرون بأن “دولة برقة” لا يمكن أن تعيش طويلا مستقلة بوجود مصر على حدودها، فإن بشير السعداوي وعقلاء طرابلس رأوا إن الجمهورية الطرابلسية لوحدها لا تشكل أي قوة، وأنها بحاجة إلى كيان أكبر يلملم هذا الشتات ويقزّم هذه الفرقة بين قاداتها وشيوخ قبائلها، وهذا طبعا قبل النفط. حيث لم تكن مركزية الدولة مشكلة بالنسبة لهم، وإنما مشاكل قبلية سخيفة تحدث في كل مجتمعات العالم، مثلما يحدث اليوم على منصات التواصل الاجتماعي، تصل حتى للتعيير “بالفاصوليا والبريوش”!.
ولا ننسى موقف الشيخ المجاهد والسياسي الليبي عبدالحميد العبار والذي ينتمي إلى قبيلة العواقير -في برقة- حين لقّن القذافي درسا قاسيا عام 1976، فبحسب رواية الأستاذ الصادق شكري في سلسلة مقالاته “رجال حول الملك”، قال إن القذافي أراد إيقاع الفتنة بين سكان بنغازي من حضر وبادية، وقال للعبار :””بنغازي للعواقير .. كيف تتركونها لعرب (قبائل) مصراتة وهم دُخلاء عليها !؟”. فكان رد الشيخ العبّار مزلزلا :”مصراتة أخوالنا وأخوال أولادنا ونحن وهُم أخوة، وكمَا يُقال ” اللي مو شاري بزناده”. والمثل يعني أن الذي لم يشتري منا أرضاً، فقد ضرب معنا بزناده في الشدة.
*****
من يرضى اليوم بتقسيم ليبيا في هذا الوقت بالذات، عليه أن يرضى من حيث المبدأ، أن يُقيم الأمازيغ دولة مصغرة مستقلّة لحماية عرقهم وتاريخهم وتحمل مسؤولياتهم أمام المستقبل، أليس هذا ما تريده أنت أيضًا؟ كذلك التباويّين والطوارق والشراكسة والقريت والقرامنليين وحتّى المرابطين إذا قرّروا ذلك، وأن يُقيم بنو هلال وبني سليم دولة خاصّة بهم أيضا، هذا طبعا، مع السماح بانفصال أي قبيلة عنهم متى أرادت ورأت أنّها تختلف معهم حتى في طريقة إعداد المبكبكة، ألا يبدو هذا عادلا؟ – بل سيكون من العيب على الإنفصاليين رفض هذا، أو السخط منه أو حتى السخرية منه. فهو حقّ مشروع لطالما طالبوا به ودافعوا عنه.
وبهذا المنطق، سوف تصبح ليبيا قارّة حقيقيّة، ممتلئة بالدول الصغيرة، وبطبيعة الدول الصغيرة العمل على خلق أعداء لتتوسّع، فعندما يتقوّى الأمازيغ سيقطعون الطريق على التبو ويحتلّونهم، وإذا جاعت قبيلة البراعصة ستذهب بسيوفها إلى قبيلة العبيدات متى أرادت، وإذا حكم الزنتان شخص متغطرس متعصّب لدولته، فسيرفع بنادقه في وجه الرجبان وجادو وبني وليد ومصراتة، وإذا عادت طرابلس إلى جاهليّتها فربما يطمح زعيمها أن يحتل الأرض من مساعد إلى راس اجدير. وستكون لكلّ هذه الدول تاريخ خاص بها، بحيث يسهل التزوير والكذب المعتمد سلفًا في الوحدة ذاتها.
وما إن تتغيّر خارطة العالم السياسية، وتتخلى أمريكا عن دبلوماسيّتها، أو أن تعود روسيا وألمانيا واليابان إلى انتصاراتها القديمة، أو ليعيد الفاشيّون أمجادهم، فسيتم تلقيط هذه الدول في الجيب مثلما تلتقط الراقصة بقشيش الصفّاقة، وسيتحوّل كلّ هؤلاء الرجال الساميين حرّاس العرق “الحضري أو البدوي” إلى أرانب صغيرة نحيفة، يدفعون طاقات الولاء إلى أيّ قوّة أمامهم، مقابل أن يكونوا منفصلين عن ليبيا فقط!
لا أقول إن الوحدة هي من تنتشلنا من أزماتنا، ولكنها أيضًا ليست المسؤولة عن أزماتنا. لأن أمامنا قبل هذا كله : فساد في القيم والأخلاق وقصور في تقييم الواقع والنظر للتاريخ والتخطيط للمستقبل، وجهل بمعرفة الهوية وتعلم النقاش والحوار وإهمال مشترك نتحمل جميعنا مسؤوليته، عطّل بلدنا ومسيرة تقدمه التي بدأت عام 1951، والتي أُسست على شكل أمّة جامعة، وليست أقاليم ضائعة على تخوم البحر الأبيض المتوسط، تتبرص بخيراتها عيون الجيران، وليست بالتأكيد على شكل دولٍ قزمة مبتورة ومنثورة على الأرض مثل حبّات المسبحة.