(ماردونا.. اليسار الخالد)
المهدي التمامي
ظلّ اليسار في دائرته المتسعة فترة طويلة من الزمن صامدًا ضد شراسة الآلة الجهنمية للإعلام الرأسمالي، لكنه لم يكن ينزل إلى الشارع “الشعبي”، رغم حمول الأحلام والوعود والغناء الصادح من “بوب مارلي” إلى “الشيخ إمام”، وإنما كان اليسار مشترطًا في الذهنية العامة بالفكر.. حتى صار قرين الكتابات الماركسية وتناسلها الشائه في غالبيته.
أما عن الإبداع، فلو نظرنا عربيًا إلى عبقري الشعر الحديث “بدر شاكر السياب”؛ فسوف نجد أن نصوصه التي صاغها في فترته اليسارية، لم ترق إلى مستويات القصائد الأخرى التموزية والرومانسية، على حد سواء، بل كان يجتهد مرضاة لإيمانه الضعيف بالشيوعية الذي تنكر لها لاحقًا في كتابه الشهير “كنت شيوعيًا”.
في الحقيقة لم يكن اليسار شيئًا مكروهًا، لكنه كان فلسفة دانية لأجل الجميع، غير أن “السياب”، وغيره من الشعراء، لم تكن مستوياتهم الفكرية قادرة على التواشج مع رؤى ماركس وبقية رسل اليسار المنظرين، بعكس أراجون، ونيرودا، ورامبو، الذين وجدوا كل شيء معدًا جاهزًا، بل بعضهم كان استشرافيًا سابقًا عبر “صوفية محسنة” انطبعت بها كتابات عديدة في القرن الـ 19، خصوصًا في “الأدب الألماني” وإشراقات فكره المجابه.
أما في فرنسا؛ فقد حاول “بيكاسو” في “المرحلة الزرقاء” أن يشير إلى تعاسة العالم عبر تثويره الدائم للفن في مواجهة صارخة ضد عالم المتعة المزيفة، فقد كان كما رآه “غارودي” ينطلق من خلفية باهتة، يشعّ فوقها بؤس الحياة عبر توسلات الأيادي المرتعشة وهي تبحث عن الحنان، وأحضان أمومة جارفة الخوف والحب، ويد تتحسس الخبز وطمأنينة الوجود، وأخرى تحتضن فراغ وحدتها.
وفي غفلة من “اليسار جميعًا”؛ جاء “ماردونا” من الأرجنتين امتدادًا لـ”جيفارا”، لكنه لا يعرف أي شيء عن اليسار سوى رجله اليسرى التي داعب بها يومًا الكرة الأرضيه في هيئة بالون، دون أن يعي أن هذه الرجل هي المفتاح الذي كان ينتظره الوجود الحي، وليتحول بعدها كوكب الأرض ذاته إلى “كرة للآلهة”، حسب وصف أحد الأصدقاء، أو ربما جاء ماردونا كقصيدة ملحمية، عجز عنها بورخيس، تحكي عن الحب والأمل؛ ليؤكد أن الشعرية قد تكمن في تفاصيل مجهولة للجميع.
وبعيدًا عن الواقعية السحرية لـ”ماركيز”؛ لم يكن “ماردونا” واجهة للوحدة والعزلة، بل جاء “ماردونا” مثل أي ثوري قادم من الفقر والأحياء الضيقة ليتسع بالأحلام بلا حدود، وليعلم الناس العبور إلى السعادة عبر شحذ الخيال.. إنه الإبداع القلبي، في محاولة لإعادة بناء العالم المخطوف من قبل فئة ضارية تعطلت عواطفها منذ أن مر بها “آدم سميث” من بوابة الطوية الباطنة؛ لأٔن الحياة الحقيقية تنبع من داخل الإنسان.
وما هي إلا فترة زمنية قصيرة؛ حتى استطاع “ماردونا” أن ينتقل برياضة كرة القدم من رياضة تجلب المتعة إلى مادة تخلق الأساطير؛ ممهدًا عبر قدمه اليسرى كتابة السفر العظيم لليسار الخالد.. وجاعلاً من الكرة “رغيف النهار الأشهى” و”متعة الليل الأبدية”؛ فمنذ أن قدم “ماردونا” إلى “بوكا جونيور”؛ أشعل الشمس الباردة فوق علم الأرجنتين، وظل يركلها بيسراه الساحرة في مستطيلات المتعة في إسبانيا، وإيطاليا، جاعلاً من جنوبها المهمّش “قبلة الشمال السعيد”، ومن الرقم 10 رقم غلالته، أقدس الأرقام على وجه الإطلاق.