ماذا لو جاء أول رئيس لليبيا؟
محمد الهادي الدايري
انتهى تسجيل الترشيحات للانتخابات الرئاسية فى ليبيا الإثنين الماضى، 21 نوفمبر، فيما يستمر تسجيل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات المترشحين للانتخابات البرلمانية لغاية يوم 7 ديسمبر.
وحتى بعد انعقاد قمة باريس فى 12 نوفمبر الماضى التى أكدت على تاريخ 24 ديسمبر، كتاريخ لبداية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تماشيا مع خارطة الطريق التى اعتمدها ملتقى الحوار الليبى فى نوفمبر من العام الماضى وقرار مجلس الأمن 2570 الصادر فى 16 إبريل من هذا العام، استمر التشكيك ومعارضة تنظيم هذه الانتخابات البرلمانية والرئاسية فى 24 ديسمبر.
•••
يقود قانون انتخابات أول رئيس فى تاريخ ليبيا الذى أصدره مجلس النواب فى سبتمبر الماضى إلى إعطاء الرئيس المنتخب صلاحيات محدودة لا تبتعد فى مجملها عن التى منحها الدستور فى تونس للرئيس والتى أراد كل من الرئيس الراحل الباجى قايد السبسى، رحمه الله، والرئيس الحالى قيس سعيد تعديلها بحيث يفضى الدستور المقترح تعديله إلى نظام رئاسى على غرار ما شهدته الشقيقة تونس منذ استقلالها. لكن مجلس النواب الليبى أراد تحديد صلاحيات الرئيس فى غياب الدستور، وليواجه بشكل خاص المعارضة الشديدة التى شنها الإسلام السياسى وحلفاء آخرون له، حتى وإن شكّل هؤلاء أقلية أمام الزخم الهائل الذى شهدته أوساط الرأى العام والتكتلات السياسية، والتى مثلت أغلبية ساحقة تؤيد إجراء انتخابات رئاسية، لتضع حدا لهيمنة مجالس نيابية على مدى العشر سنوات التى تلت انتفاضة 17 فبراير. أنصب طرح المعارضين على ضرورة عدم استنساخ النظام السابق، الذى استحوذ من خلاله رأس السلطة التنفيذية وحده على مقاليد الأمور فى البلاد. ومن ثم، جاءت صلاحيات الرئيس المنصوص عليها فى المادة 15 لتعطيه مجالا فى تعيين نائبه ورئيس الوزراء وقيادة الجيش العليا والاضطلاع بمسئوليات السياسة الخارجية؛ بما فيها إبرام المعاهدات والاتفاقيات مع الدول، فيما لا تكون هذه الصكوك القانونية نافذة إلا بعد موافقة مجلس النواب عليها. كما أن الأحكام العرفية التى قد يعلنها الرئيس لابد أن تخضع لموافقة مجلس النواب.
وعلى افتراض أن هذه الانتخابات الرئاسية التى تشهدها ليبيا لأول مرة ستعقد فى موعدها، يظل السؤال الذى يطرحه الليبيون، المؤيدون منهم لتنظيمها والمعارضون لها على حد سواء، هل ستؤدى هذه الانتخابات إلى بداية عملية الاستقرار التى لطالما تاقت القطاعات العريضة للشعب الليبى لبلوغها، أم أن أوضاعا وتحديات أمنية ستبقى عائقا فى طريق إعادة الأمور إلى نصابها، بالنظر إلى نتائج هذه الانتخابات التى قد لا تقبلها الأطراف الخاسرة فيها؟.. لأنه سبق وأن رأينا أن نتائج الصندوق الانتخابى لم ترق إلى بعض أطراف الصراع فى عام 2014 وأدت إلى اشتعال حرب أهلية. ونصت قمة باريس، التى من المتوقع أن يعقبها قرار لمجلس الأمن مصادق لمخرجاتها، على عقوبات ستطال المعرقلين قبل وأثناء وبعد إجراء الانتخابات. وهناك ضغوط دولية تمارس وستمارس على الأطراف المعرقلة، نأمل هذه المرة أن تكلل بالنجاح للسماح للشعب الليبى بتقرير مصيره، بعيدا عن قعقعة السلاح وإملاءات أى طرف يسعى للحيلولة دون وصول هذا الاستحقاق الانتخابى والحق السياسى السيادى إلى مبتغاه.
•••
إن الحقيقة الناصعة التى يدركها الجميع أنه لا مجال للمبالغة فى التوقعات والآمال المعقودة على نجاح الانتخابات الرئاسية وحدها، ذلك أن طريق الاستقرار طويل، بعد عشرية اتسمت بالفوضى والاحتراب وحقبة أخرى من غياب لمؤسسات دولة حقيقية. ولكن وجود رئيس منتخب من الشعب على رأس السلطة، إلى جانب مجلس تشريعى منتخب هو الآخر، يمكن أن يمثل اللبنة الأولى فى مسيرة جديدة للبلاد. ذلك أن المشروع الذى يحمله الرئيس المنتخب والسلطة التنفيذية التى ستترجم هذا المشروع على أرض الواقع يمكن أن تكون علامات فارقة فى بداية الاستقرار.
وهنا يكمن مربط الفرس، فهل يمكن لمخططات ذات مصداقية فى إمكانها أن توضح للناخب ملامح إيجابية للفترة القادمة وتقنعه بالتصويت لهذا المرشح أو ذاك؟ المنتظر جوهريا من الطامحين فى اعتلاء سدة الحكم فى السنوات الأربع القادمة أن يبينوا لنا كيفية إنقاذ الوطن من تشرذمه والمآسى الأخرى التى يئن بسببها. وبنفس القدر من الأهمية، نسعى إلى معرفة كيفية إعادة بناء الدولة وتدعيمها بمؤسسات قوية، يكون عمادها القانون، والقضاء المستقل.
فبالنسبة للوطن، ثمة تساؤلات كبيرة للمترشحين حول نهج استعادة سيادته، من خلال رحيل كل القوات الأجنبية والمرتزقة، وعلى جميع مسمياتهم. فاستقرار البلاد لن يتم فى وجود الأجنبى الذى يفرض سيطرته على القرار الوطنى.
كما أن الوطن يحتاج من أبنائه الالتفات إلى قضية ملحة سبق أن استعرضناها فى مقال سابق تتعلق بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية اللتين تشكلان العمود الفقرى لأى عقد اجتماعى ــ كميثاق الحرابى الذى أبرم فى برقة فى 1946ــ وبناء دستورى مستقبلًا. لقد علمتنا تجربة العشر سنوات التى مضت أنه بدون تسوية مجتمعية بين أطراف الخلاف والتناحر لا يمكن لأية تسويات سياسية أن تصمد ويكتب لها النجاح، حيث تظل تترنح تحت وطأة جراح الماضى التى لم تضمد بعد، بالنظر إلى إهمالها، واللهث وراء سراب ما يسمى بالحلول السياسية التى كانت مجرد خطط لتقاسم السلطة. وقد رأينا أن التداول السلمى على السلطة قد غاب أساسا، وربما يطل ــ لا سمح الله ــ بظلاله الوخيمة مرة أخرى بعد الانتخابات، بسبب غياب الثقة بين أطراف النزاع. صحيح أن الجشع ونهب المال العام كان ــ ولا يزال ــ هو الآخر يدفع ببعض المتصدرين للمشهد السياسى بالتشبث بالسلطة. لابد إذا من تقلد الرئيس المنتخب لقيادة مسار المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والسعى الحثيث لإنجاحه. ومسيرة الاستقرار تبدأ من الالتفات بهمة عالية لهذه المسألة الهامة.
أما الدولة، فتحتاج إلى من يتوقون لتولى رئاستها إلى خطط يعرضونها، بحيث نرى عودة لسلطة المؤسسات الموحدة، بعيدا عن التشتت وبسط الهيمنة من قبل تشكيلات عسكرية تدعى انتماءها للدولة ولا تخضع فى الواقع لها، بحيث لا يمكن وضع حد للفوضى العارمة التى خلقتها إلا بتفكيكها وتوحيد المؤسسة العسكرية المنقسمة حاليا، فلا استقرار نأمله بدون توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية. وعندما نتحدث عن دولة القانون، فإن ذلك يعنى بالدرجة الأولى على سيادته فوق الجميع، وأولهم أصحاب السلطة التنفيذية. بيت القصيد هنا أنه على هؤلاء المسيطرين على مقاليد الحكم، أن يمتثلوا للقانون، وخاصة فيما يتعلق بالتصرف فى المال العام. ومن ثم، يقع لزاما على من يود تولى الرئاسة أن يدلل لنا كيف سيعمل على وقف النزيف الحاد الذى يتعرض له المال العام على يد العابثين به فى الحكومة الخاضعة لإشرافه والتى سيعين رئيسها. وفى الوقت نفسه، تظل استقلالية القضاء ودعم هذه الاستقلالية محورا مهما فى دولة القانون التى نصبو إليها ونحتاج إلى أجوبة شافية بشأنها من المترشحين.
وقبل ان يفصل فى ذلك الدستور فى المستقبل فى هذه القضية المصيرية، نحتاج معرفة كيف يعتزم المرشح الرئاسى معالجة قضية المركزية المقيتة الضارة بربوع الوطن، بما فيها مناطق الإقليم الواحد، بعد تعنت الحكومات المتعاقبة واحتكارها للسلطة مركزيا والإحجام عن تنفيذ قانون 59 لعام 2012 بشأن الإدارة المحلية الذى منح للبلديات صلاحيات واسعة فى شئون إدارة مناطقها، لكن عدم تحويل الميزانيات من الحكومات المركزية لها ظلت تعيق تنفيذ المهام المنوطة بها حسب هذا القانون.
ولعل الناخب، وقبل أية استراتيجيات فى الشأن الاقتصادى، ينتظر أولا أجوبة عن رؤية المترشحين حول كيفية إيجاد حلول فعالة لمعضلات تواجهه يوميا، كالكهرباء والغلاء المعيشى وعجز النظام الصحى عن تقديم أبسط الخدمات. يأتى كل ذلك فى مقدمة قائمة الاهتمامات الآنية، قبل أن يستمع الرأى العام إلى منظور المترشحين فى النهوض بمستوى التعليم وتطوير الاقتصاد من اقتصاد ريعى إلى اقتصاد تتعدد فيه مصادر الدخل القومى، بعد استغلال لثروات أخرى لا تقل جميعها أهمية عن البترول.
•••
يركز الكثيرون هذه الأيام على ضرورة قبول كل المترشحين نتائج الانتخابات، وهو أمر هام نتخطى من خلاله عثرات الماضى، لكن التزام المترشحين بالتداول السلمى على السلطة، بعد انتهاء ولاية الرئيس القادم، وطرحهم على الناخبين مشروع كل منهم للوطن والدولة لا يقلان أهمية عن تلك التى يكتسيها تلمس طريق الخلاص والخروج بالبلاد من هذا النفق المظلم الذى عرفته منذ خمسين سنة.