ماذا فعلنا بأنفسنا ؟ !!
المهدي يوسف كاجيجي
ضربونا فى جنزور !!
ألزمن.. حقبة الستينات،كانت البلاد تعيش حراكا سياسيا بمناسبة انتخابات مجلس النواب،جريدة ” الحرية ” وقتها كانت تصدر اسبوعيا، وتطبع فى المطبعة الحكومية. تم الاتفاق مع فنى الطباعة ان يسهر معنا، ونقوم بتوصيله الى محل سكناه فى مدينة جنزور، التى كانت وقتها تشهد تنافسا حادا بين مرشحيها. رافقنى الزميل المرحوم عبدالكريم الدناع، وعند العودة أوقفتنا نقطة تفتيش ،سألنا الشرطى عن سبب تواجدنا فى جنزور فى هذا الوقت المتأخر من الليل، وقال : ” أعطوني الكواغط ” ويقصد رخص السيارة ، انطلقت من عبدالكريم ضحكة مجلجلة مرددا: كواغط.. كواغط، فى الظلمة لم يرى الشرطى سواى ، وبالتالى اعتقد اننى صاحب الضحكة المستفزة، انتابته موجة من الغضب ، وسحبنى بعنف من السيارة وانهال علي بالشتائم واللكمات، صرخ زميله : اتركه يا اومباشي الولد يموت فى يدك .هرب عبدالكريم ، وعاد فني الطباعة ،فهمس فى إذن الشرطى باننى صحفى، وشرح له سبب تواجدى فى المكان،،فوافق على إخلاء سبيلي. خرج عبدالكريم من مخبئه ، ركبنا السيارة، كنت فى حالة يرثي لها وبعد ان خرجنا من جنزور، انتحيت جانبا من الطريق، وانهمرت فى بكاء عنيف نتيجة الشعور بالظلم والمهانة ، احساس مر، لا يشعر به إلا من مر بتجربة مماثلة. عدنا للمطبعة فأوقفنا الطباعة وكتبنا مقالة بعنوان ” ضربونا فى جنزور ” شرحنافيها ما جرى ، فى الصباح انقلبت الدنيا ، كانت ردود الفعل لما كتب كبيرة ، اتصالات من مكتب رئيس مجلس الوزراء ، وزير الداخلية، وزير الاعلام، وزيارة للًزعيم سالم بن طالب مدير الشرطة لمكاتب الجريدة، معتذرا لما حدث معلنا فتح باب التحقيق، فى المساء حضر مجموعة من عائلة الاومباشى معتذرين مؤكدين ان لنا فى رقبتهم ” حق عرب “. اضافة الى ما تبع ذلك من الاتصالات الهاتفية ورسائل القراء تعبيرا على احتجاج اصحابها وتضامنهم .
حوار الأجيال
الحكاية معادة ،سبق ان ذكرتها على صفحات ليبيا المستقبل، من خلال حوار دار بينى وبين الاساتذة حسن الأمين وأحمد الفيتوري ،عن تجربة جيلي الصحفية والاعلام الليبي فى وقتنا الحالى. كان الحوار بين صحفي عجوز هرم
خاض تجربة الصحافة الورقية فى عصر الجمع اليدوي، مع جيل من رواد ومحترفى الصحافة الرقمية والاستخدام المتطور للتكنولوجيا، والاستعادة ليس اجترارا وخرف شيخوخة ولكنها محاولة لتعريف جيل الأحفاد كيف كان المجتمع يتفاعل مع قضاياه وردود فعله تجاه ما كان يكتب فى تلك الفترة .صحافة كان ينظمها القانون والعرف الأجتماعى وشرف المهنة، كفلت للمتضرر الحق بالتكذيب والتصحيح والاعتذار والتعويض ايضا. مقارنة بإعلام اليوم الذى توفرت له كل الإمكانيات المالية والتقنية، ولديه القدرة أن يطاردك اينما كنت، بالصوت والصورة وعلى مدار الاربعة والعشرين ساعة، ولكن معظمه فقد علاقته بالموروث الاجتماعى والثقافي، تخلى عن رسالته، وفقد حياديته واصبح شريكا فى الصراع السياسي، ففقد مصداقيته. لم يعد يري للوطن حرمة، تابعا ذليلا لمن يدفع .
فقدنا الإحساس بالآخر !
فقد الشارع الثقة بأعلامه، واصبح لديه انطباع مسبق بعدم المصداقية، وبالتالي لم يعد للاعلام الموجود على الساحة اى تاثير، فى تشكيل اتجاهات الرآى العام على ارض الوطن. وهذا مما ادى الى ارتفاع مخزون الاحباط والكأبة لدي المواطن، وصلت الى حالة متقدمة من عدم المبالاة والتبلد، واصبح المواطن يتابع ما يجري على ارض وطنه من احداث مؤلمة وصراعات مدمرة، كأنها منقولة له من كوكب اخر، وليس على بعد خطوات من بيته، وربما يكون هو شخصيا واهله ابطالا لأحداث قادمة. الكل متكي فى مربوعته في يده ريموت متنقلا بين المحطات، ليشاهد بتلذذ مريض مدنه وهى تهدم، وشبابه وهو يقتل، وممتلكاته وهى تسرق. بلد يختطف مواطنيه بشكل يومي، تحول فيه حدث الخطف إلي واجب اجتماعى، مثل الفرح والعزاء، تنصب له الخيام. بلد تبعا لآخر الأحصائيات المتداولة وصل فيه عدد المفقودين فى المنطقة الغربية وحدها 676 مفقودا، وعدد الجثث المجهولة 74 جثة. بلد يخطف فيه الاطفال. كل ذلك واكثر يقابل بردود فعل باهتة باردة والامبالاة قاتلة، شعب فقد الاحساس بالآخر، بل فقد ايضا الأحساس بالنفس.
ماذا فعلنا بأنفسنا ؟ !!
فى الستينات من القرن الماضي، عقد مؤتمر للأدباء والشعراء العرب فى بغداد تذكرت بيت شعر من قصيدة القاها الشاعر الليبي الكبير الاستاذ راشد الزبير السنوسى، صفق له الحاضرون طويلا يقول:
أفراح وهران فى الخرطوم صاخبة
وجرح تونس فى البحرين نغار
فى فبراير عندما صرخت بنغازي، فنزف الدم فى ميدان الشهداء فى طرابلس، وخرجت ليبيا كلها تهتف ” بالروح بالدم نفديك يا بنغازي ” فسقط النظام الحاكم . ماذا جرى بعدها ؟ تصارعنا ..فتمزق النسيج الوطني الاجتماعى المتداخل وسيطرت ( الأنا ) على المشهد، ونظرنا إلى الوطن بعين الغنيمة، ففقدنا المواطنة وفقدنا الإحساس ببعضنا البعض. وعندما بدأت خفافيش الظلام فى نهش الجسد للوطن الطاهر وتمزيقه، جلسنا بتبلد شديد امام الشاشات، وتنقلنا عبر صفحات التواصل، مشاركين ومشاهدين ونحن نري مدننا تدمر، وثرواتنا تنهب، وشبابنا يقتل، وشعبنا يهجر،دون حراك وعندما ادركنا الخراب ورأينا حصاد أيدينا، لم نصدق ماذا فعلنا بأنفسنا ؟!.
* الصورة لمدينة بنغازي الحبيبة، شاهدا حيا على ما فعلناه بها، وما فعلناه بأنفسنا .