ماذا حصل في غريان؟
طه البوسيفي
يتحاشى كثير من العسكريين أن يتحدثوا بجانب من التفصيل عن حقيقة ما حصل يوم السادس والعشرين من يونيو الماضي، مع أن التفصيل هنا يندرج في إطار المكاشفة والصراحة مع المجموعة المؤيدة والتكتلات البشرية التي تعطي لأي عملية عسكرية أو سياسية الزخم وتضخ الدم في العروق، والبنزين في محركات العمل، ولست من أولائك الذين يقنعون بالمسببات الأكثر تراخياً وتكاسلاً وسهولةً والتي تحيل كل شيء على الاستراتيجيات العسكرية والخطط الموضوعة مسبقاً والضرورات الميدانية والمدرجة تحت بند السرية التامة والتي يصبح من المحرمات الاقتراب منها أو السؤال عنها.
في حلقات البرنامج الذي أقدمه تعمدت أن أسأل بوضوح عما حصل في غريان، هل كان انسحاباً للجيش؟ هل كانت هزيمة؟ أين يكمن الخلل؟ هل كان اختيار غريان مدينة تستقر فيها غرفة العمليات خيارا صائباً؟ وإن كان صائباً عسكرياً؟ هل كان صائباً اجتماعيا؟ هل تطمئن القيادة العامة إلى الاتفاق الذي دخلت به إلى المدينة؟ كلها أسئلة طرحت بشكل واضح أو ضمني، لكن أحداً من الشخصيات العسكرية أو المدنية لم يستطع أن يحيط بجوانب الموضوع، ويستفيض في الشرح المفصل المحتوي على المعلومة الدقيقة والتحليل السليم ففسح المجال كي تصير قصة غريان علكة على كل لسان، حتى أن هذا الغموض من قبل القيادات العسكرية فتح الباب لكثيرين من أنصار الجيش الوطني ودعاة الدولة المدنية التي أساسها الجيش والشرطة لا التشكيلات المسلحة المبنية على أسس فوضوية أن يضعوا ما حصل في غريان في خانة الخيانة، فسارع خلقٌ كثيرٌ إلى وصم المدينة بالخائنة، واستعانوا بالماضي الذي لا يود الكثير تذكره نظراً للاختلاف حوله من حيث الرواية التاريخية ودقة مصدرها، وعملت صفحات الفيس بوك على مونتاج مقاطع فيديو من فيلم عمر المختار مع مشاهد لاستهداف قوات الأمن المركزي مع مؤثرات شعرية وموسيقية لتجييش المشاعر والانسياق وراء الفكرة المصصمة مسبقاً.
إن ما حصل في مدينة غريان في نظري الشخصي وبعيداً عن الاستعراضات لم يكن أمراً جللاً، ولم يكن غير طبيعي، ولم يكن مستبعداً، ذلك أن شرائح في المدينة ترفض صراحة الجيش الوطني وهذه حقيقة لست في ريب منها ولست في معرض الدفاع عنها ضد أحد من المتنطعين دعاة اللحمة الوطنية الزائفة لكي يأكل منها رغيف خبز.
اختيار مدينة غريان كان لبعد عسكري خالص وهي أنها تمثل أعلى نقطة جبلية، ومحصنة جيداً، لكنها منطقة يسكنها عشرات الآلاف، والبعد الديمغرافي كان حاسماً، فالقيادة العامة في نظري لم تعرف كيف تمزج العسكري مع الاجتماعي مع كانت تفعل في مدن الشرق والجنوب، المسار الاجتماعي في غريان تبين أنه غير فعال، ذلك أن المدينة لا تقودها فعاليات اجتماعية، فهي مدينة بطابع ساحلي وإن كانت في قلب الجبل الغربي.
لست ممن ينساق وراء لغة التخوين والغدر وإلصاق الفشل بالآخرين وتصنيف الأمور في إطار المؤامرة الكونية أو الكبرى، لكني أميل إلى النقد الهادف وتفحص الأمور بعيداً عن الانجرافات العاطفية، ما حصل في غريان باختصار كان تشتت الجيش وفقدانه حالة التوازن بين الجانب العسكري والجانب الاجتماعي، فهو لو ركز على جانب واحد فقط وأحسنه وضبطه وألمّ بجوانبه لما غادرت غرفة العمليات المدينة، ولما جرى في رجال الأمن المركزي _الذين افترشوا الأرض والتحفوا السماء وحموا المدينة ما يقرب عن الثلاثة أشهر_ ما جرى.