“ماءان” رواية تضئ العتمة
سالم العوكلي
“المطر هذا النزف الأبدي، هذا الدمع المستجدى، هذه النطف المشتهاة، الحاضرة في ذاكرة الأرض الحالمة بغيمات ممتلئة المثانة، المطر هذا المعشوق الذي يقتفي الفلاحون والرعاة حوافره، المطر هذا الماء المخاتل الذي يدعي الطهر رغم نجاسته، المطر حلم المحاريث المؤجل، وتعويذة الأرض العطشى.”.
بهذا المدخل الكثيف الشعرية، المتلصص على شاغل الرواية الجوهري، يبدأ الشاعر والروائي، عبد الحفيظ العابد، روايته “ماءان” الصادرة عن دار تموز ، 2017 . كاشفا عن سؤال الرواية الأصيل وهو يتتبع هذا التداخل العضوي والوجودي بين الماء في الجسد الإنساني والماء المحيط به، حيث العطش، عطش لحم الأرض وعطش تراب الجسد، هو المحرك المركزي لهذه العلاقة الأزلية . فتختلط المطر بالنطف، والنجاسة بالطهر، وتصبح للغيمة مثانة، وللمطر حوافر تقتفى، لتندمج فيما بعد محاريث ألأرض العطشى مع محاريث الأجساد اللاهثة خلف الأرحام في هذا الجسد الكوني الذي يتتبع وحله في قرية ليبية صغيرة معزولة عن العالم لكنها في قلب أسئلته الوجودية.
من الاسم (ماءان) حيث لا يُثنى الماء في اللغة، تعلن الرواية عبر هذه المشاكسة اللغوية عن لعبتها ـ وهي المشاكسة التي تعلن ديدن هذا السرد الذي يخترق المسكوت عنه بلغة حاسرة الرأس وسامية.
ماءان يشتركان في لعبة الحياة، ماء السماء وماء الأصلاب، يتبادلان الطهر والنجاسة ، ويسربان في ثنايا النثر لدرجة نحس فيها بالكلمات وهي مبللة . رواية ترافع عن الأنوثة في أرض تشقها المحاريث دون شفقة، تحمل فيها الأنثى وزر الخطيئة الأزلية التي مازالت تلاحقها، وإرث خرافة جعلت منها الوعاء الأبدي الذي تسكب فيه ماء الأصلاب دون أن تقدر على إطفاء العطش ، الذي يظهر ندوبا على سطح الأنوثة مثل صدوع الخريف على صفحة التراب.
يقول في مدخل تأملي آخر “منذ أن لفظك ضلع آدم وأنت تبررين وجودك، وتحملين تفاح خطيئتك الذي طالما أفزع، سكاكين اشتهائهم، أنت المذنبة، عليك إدعاء محبة إله جعل الجنة تحت قدميك لمن أرادها، لكنه لم يجعل لك شيئا فيها، لن تكوني فيها إلا كما كنت في الدنيا حرثا يحرثه الرجل، ووطأة يطؤها، أنت شيطانة هذا الكون، وزهرة الشر التي أغوت قابيل أن يدنس بياض هذه الحياة وبراءتها، لست إلا فراشا، نعم أنت فراش ، ولكن لا تستهيني بهذا الفراش الذي كثيرا ما كان مركز السلطة ، كم من دول أديرت من هذا الفراش، وقرارات حرب اتخذت فيه، عروش هوت وحصون دُكت لأن هذا الفراش، أراد ، هنا على هذا الفراش خر الجبابرة صاغرين ، هنا في وسعك أن تجابهي العالم المستذكر، أن تسلبيه امتداده الأفقي وانتصابه، وأن تمتصي كل قذاراته، ومن قال إن البحر هو المبتلع العظيم.”.
ثمة رأي يقول أن الأفكار تثقل الرواية، لكن السبيل للخروج من هذا المأزق أن نجعل الرواية تفكر، وهذا ما نجحت فيه رواية “ماءان” التي نجحت في صهر هذه الأفكار في بنيتها التي تلاحق بنفس استجوابي الثيمات التي يدور حولها العمل .
وما أكثر الحكايات التي تروى وما أقل الروايات .
يشكل هذا الاستفهام التعجبي الذي يتكرر مرارا، مدخلا لتحسس ثيمة الرواية أو شاغلها الفكري: “ومن قال إن البحر هو المبتلع العظيم؟” وتلك الأرحام مشرعة منذ الأزل وعلى مدى الكون لماء الأصلاب الماطر فيها دون هوادة.
تجري أحداث الرواية في قرية “تغنيت” في جبل نفوسة التي يقسمها وادي “وازينا إلى نصفين ، وبين عقدي السبعينيات والثمانينات، الوادي الذي يشكل متنفس الشهوات المشتعلة “الوادي خائن نزق ما أن ينتصب حتى يدنس هذه الأرض بمائه النجس، لكنه في الوقت ذاته يتطهر من أدرانه، آه كم هو مخاتل هذا الماء ، كيف يتسنى له أن يكون طاهرا نقيا، ونجسا في آن؟”.
وفي هذا الحيز الصغير تكمن الحياة بكل تعقيدها، بسذاجتها وعمقها، غير أن الرواية التي لا تمشي على السطح وتتوخى المعرفة وحدها أخلاقية لها، تذهب إلى سبر الحياة السرية المسكوت عنها والتي تؤلف القدر الأكبر منها، مثلما الفراش يؤلف القدر الأكبر من التاريخ، ولا تقف عند وصف الوقائع التي تديرها الأقنعة لكنها تغوص في العتمة وتضيء ما يحدث فيها، بل تسبر أغوار المنامات الليلية والكوابيس التي تشكل إعادة أنتاج للمسكوت عنه، وتعبير عن المكبوت . نعم .. الكبت وما يتولد عنه من طاقة قاهرة هو ثيمة أساسية لهذا الدفق السردي الذي يمزج الطبيعة مع الأعضاء البشرية في مركب واحد يعكس هذا الشغف الكوني، والطاقة التي تحرك العالم أو ما سماه الأقدمون “الأيروس” .
الكبت بكل تجلياته الاجتماعية والسياسية يجعل من العنف أداة أساسية للعلاقة بين هذا الزحام البشري، يتحول العضو الذكري الذي يشحذ في طقوس الختان إلى سلاح أعمى ، ويغدو الانتصاب السياسي الذي تسميه الرواية الامتداد الأفقي محركا لكثير من الأحداث القمعية التي حدثت في هذين العقدين حين يتجه السرد إلى طرابلس عبر أحد شخصيات القرية الذي يواصل دراسته الجامعية، ويحصل في السكن الجامعي على سرير بين سريرين، أحدهما لمختص في الفلسفة والثاني لمختص في الدراسات الإسلامية، ليجد القروي نفسه في قلب سجال المرحلة الصعب، بين الخرافة والعقل.
تظهر هذه الإشارات السياسية المختزلة خلف متن الرواية الذي يجري في القرية ، ولا يتوقف عندها كثيرا، تومض سريعا كالبرق في غيم الرواية التي تتبع صميم الشحنة وتركيبها الأزلي، فما يحدث على المسرح السياسي مجرد نتاج طبيعي لهذا الامتداد الأفقي الذي يحدث على كل المستويات، بينما الأنوثة التي تمثل الامتداد الرأسي تخسر رغم القوة الكامنة فيها، وكيف لا نخسر اللعبة والأنوثة معادل حضاري للحداثة ” وكيف لا نمتد أفقبًا فقط والأنوثة حبيسة جسدها ترفل في قيود كرسها المخيال الذكوري المهيمن “منذ أن قدت قميص يوسف وأنت سجينة جسدك، مطاردة من كل الرجال الذين ما فتئوا يغلّقون بابا تلو آخر خوفا من أن تمتد حلمة تفاحك إلى اشتهاء سكاكينهم، بالأمس عشت متهمة تحملين خطيئتك واليوم أضحت خطيئتك تحملك.”.
الحياة السرية التي لا تعلن عن نفسها إلا طقسيا وفي المناسبات فقط ثم تأوي إلى العتمة هي مبحث الرواية التي لا تنفك تتلصص من خلال الثقوب وتسقط الأقنعة وهي تتقدم، حيث الجميع يتظاهر أنه يفعل شيئا آخر وهو في ذروة إصغائه لوسواس الشهوة القاهر، والفحولة هي مصدر الفخر الوحيد في مجتمع يعتبر المحراث معبده، وفي حياة ترتجل التفاهة دون أفعال عظيمة تذكر. يحضرني قول كونديرا: “وحدها الرواية أفلحت في اكتشاف سلطة التفاهة الفسيحة والغامضة”.
في عرس المبروك على محجوبة، يتكثف السرد الروائي وهو يصف طقوس الدخلة، حيث يكسر المبروك الزمن القياسي في كل القرية ومحيطها، وينجز المهمة الدموية في دقائق قليلة، ليخرج ملوحا بعلامة النصر وسط الزغاريد والهتاف فارسا متوجا “لقد صنع المبروك تاريخا لقرية تغنيت التي صارت حديث الناس ، طار الخبر سريعا إلى القرى المجاورة ، رواه الناس بكثير من الدهشة والإعجاب بهذا الرجل الخارق ، شكك بعضهم في الحادثة ، أضحى المبروك بطلاً في أعين الصبيان ، ونام على كثير من وسائد الفتيات الحالمات.”. لكن الفكاهة التي تستمتع بتحطيم المقدس تنهض مرارا لتشاكس. الفكاهة بمعنى (Irony ) حيث تنبع تلقائيا من حشد المفارقات التي تصاحب مجتمع الأقنعة، والتي تجعل كل شيء تلمسه غامضا (النشوة التي تثيرها نسبية الأشياء الإنسانية؛ المتعة الغريبة المتحدرة من اليقين بأنه لا يوجد يقين) كما يقول كونديرا.
تتضح الخديعة في هذه البطولة المزيفة، لنكتشف أن المبروك استخدم في تلك الليلة سبابته الغليظة أداة لفض البكارة ، تلك السبابة التي لا تنفك طيلة السرد تشير إلى مكامن الفكاهة وهي تنتهك قدسية كل ما تلمسه، عبر تجلياتها المختلفة وتحولاتها ، فهي المُسبّحة في الصلاة وهي العضو في ليلة الخديعة وهي أداة الضغط على الزناد التي ستبتر حين يصاب المبروك في حرب تشاد ويعود ليدفنها في تراب القرية ، ويذهب إلى الشيخ الزروق ليأخذ منه فتوى في إمكانية استخدام إصبع بديل للتسبيح .
وهذا الإخصاء الرمزي سيكون أحد مديات الرواية ، حيث كالامتداد الأفقي سينسحب على فضاءات واسعة يسير عبرها التاريخ الفردي والجمعي ، السبابة المبتورة في الحرب تخرج المبروك من القوات الخاصة إلى العمل الإداري، وتربك صلاته، وتحرر محجوبة من كابوسها.
أهم ما في هذه الرواية أنها تتبنى تقنية سرد يجعلها عصية على أن تحكي، وأنها تقول ما لا يقال بغير الرواية، وأنها تفكر وهي ترصد هذا المجتمع الصغير دون أن تفقد القدرة على صهر الأفكار في مركبها السردي .
والأهم من كل ذلك أنها ممتعة ،والمتعة شرط أساسي لكل فن يخلص لشروطه.