مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا ( عراقة وأصالة)
رمضان كرنفودة
كثيرون يتحدثون عن المجتمع المدني في ليبيا، ويرون انطلاقته الحديثة والجديدة بعد ثورة فبراير 2011م, لعلهم لا يدركون أن العمل الأهلي في ليبيا له جذور وأساس قديم. ما يعرف بِـ “الرغّاطة” هي إحدى صور العمل الجماعي الذي يقوم به الأصدقاء أو أهل الحي لمساعدة أحدهم دون مقابل، فى كثير من الأعمال سواءً كانت في المجتمع القروي أو البدوي وكذلك الحال في المدينة أيضا؛ أمثلته منها “بناء البيوت، جزّ الصوف، والطهي في الأفراح”.
المجتمع الليبي مثل غيره من المجتمعات، لم يكن يخلو من المبادرات والسياقات والآليات التي تسعى إلى بناء أسس تنظيمية اجتماعية تحاول بلورة أنماط من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية .
فى فترة تحقيب التاريخ فى العهد العثماني الثاني (1835-1911) عاش المجتمع الليبي عدة قرون من الظلام المعرفي الدامس، ولم يكن لنور العلم والثقافة أي طريق إلى أبنائه، باستثناء شذرات بسيطة من التعليم الديني في الكتاتيب والزوايا التي أنشئت بمجهودات شعبية تطوعية. في سنة 1882، شهدت ليبيا ميلاد أول جمعية ثقافية سياسية تحت اسم (القرائحة)، أسسها الأستاذ إبراهيم سراج الدين في طرابلس، ضمت فى عضويتها عددا من النخب والشخصيات فى تلك الفترة، منهم المؤرخ (أحمد التائب) والشيخ (حمزة ظافر المدني) وغيرهم. امتدت هذه الجمعية إلى بعض المناطق الأخرى حيث انضم إليها عميد بلدية بنغازي فى تلك الفترة ( إبراهيم المهدوي) وكذلك بعض الأعيان والشباب من مدينة مصراتة. من ضمن ما نصت عليه بنود هذه الجمعية التي اتخذت من المقاهي في المدينة مكانا ومقرا من أجل لقاء أعضائها؛ محاولة إصلاح التعليم والاهتمام بنشره والتشجيع على إقامة الجمعيات، بالإضافة إلى التثقيف ومتابعة الجرائد والحث على قراءتها. لكن لم تعمر هذه الجمعية وقتا طويلاً حيث ألقي القبض على مؤسسيها وأعضائها، بتهمة تهييج و تشويش الرأي العام.
كذلك فى أواخر تلك الفترة أَسس بشير السعداوي جمعية وانضم إليها عبدالرحمن الزقلعي ومفتى الخمس ( محمد أبوخريص)، كما اهتمت الجمعية بموضوعات الإصلاح الإداري ونشر المعرفة.
في سنة 1898، أسست أول مدرسة أهلية على التبرع، مدرسة (الفنون و الصنائع ) بطرابلس حيث تبرع الوالي ( نامق باشا) بقطعة أرض وتم تجميع التبرعات من الأهالي والتجار وكانت من أوائل دور العلم والمعرفة لتعليم بعض الصناعات، كما احتضنت الكثير من الأيتام وأبناء الأسر الفقيرة في تعليمهم.
وتوجد هذه المدرسة إلى هذا اليوم على نفس الشكل الهندسي الذي صمم لها في تلك الفترة.
وفي عام 1904 عرفت مدينة طرابلس أول مدرسة للبنات، مدرسة أهلية تطوعية، درست الحساب والتاريخ والجغرافيا والتدبير المنزلي مثل الحياكة والتطريز، بالإضافة للموسيقى، وكان يشرف على الامتحانات في المدرسة مفتى ولاية طرابلس والمدرسين الذين تعلموا في تركيا وكذلك بعض المدرسات من الأصول التركية خصوصا في مادة الموسيقى والتدبير المنزلي.
وفي سنة 1908 انطلقت أعمال أول جمعية نسائية أهلية تطوعية في ليبيا تحت اسم ( نجمة الهلال)، كانت انطلاقة متميزة وفريدة نحو العمل النسائي العام وتحولت الفتاة أو المرأة الليبية من مجرد تلقيها للدروس إلى العمل التطوعي المجتمعي عبر جمعية أهلية مستقلة قدمت المساعدات العينية إلى الأسر المحتاجة، كذلك قامت بتدريب “بنات العائلات” أصول الطهي والحياكة والتطريز والقراءة والكتابة.
وجمعية نجمة الهلال النسائية الليبية لم تقتصر في تقديم خدماتها داخل الوطن بل كان لها طموح أن تنقل الفتاة الليبية في ذلك الوقت نشاطها إلى خارج الحدود، وساهمت في جمع التبرعات وإرسالها إلى صيانة آبار المياه في مكة وجبل عرفات، قامت أيضا بحملة تبرعات لصالح إنشاء السكة الحديدية في الحجاز وهو المشروع الإسلامي الكبير فى ذلك الوقت.
في عام 1909 صدرت أول صحيفة مستقلة، تعتبر من إعلام المجتمع المدني في تلك الفترة، هي صحيفة ( أبوقشة) وكان مؤسسها ورئيس تحريرها الأستاذ محمد الهاشمي، نشرت مقالات انتقدت فيها النظام التركي في ما يقوم به من كتم للحريات.
في فترة الاستعمار الإيطالي أسس أول مشروع ليبي اجتماعي ثقافي مدني بعد أن تم في فترة دخول إيطاليا إلى ليبيا وقف للحراك الثقافي السياسي. هذا المشروع هو تأسيس ( النادي الأدبي) في مدينة طرابلس عام 1920 وأسسه الأخوة أحمد الفقيه وعلي الفقيه وتعتبر جمعية انبثق عنها مكتبة ومدرسة ليلية، كانت تقوم بجلب الصحف والمجلات الهادفة من الدول المجاورة من أجل نشر الثقافة والمعرفة، لكن سرعان ما أغلقت السلطات الإيطالية المستعمرة هذه الجمعية أو النادي. لكن تم إعادة فتح النادي في عام 1943، أثناء الإدارة البريطانية و تحول بعد ذلك إلى حزب سياسي وهو ( الحزب الوطني) الذي انبثق منه حزب الكتلة الوطني.
كذلك تأسست جمعية عمر المختار في مدينة بنغازي فى عام 1945 كجمعية ثقافية رياضية وتحولت بعد ذلك إلى حزب سياسي، لكن أوقف نشاط هذه المؤسسات في بداية الخمسينيات.
وفى الفترة ما بين 1943 إلى سنة 1949 في عهد الإدارة البريطانية سمح بتأسيس الأحزاب والجمعيات الأهلية والأندية الرياضية.
في فزان أسست أول جمعية سياسية ( الجمعية الوطنية بفزان) سنة 1946، بقرية زلواز بمنطقة وادي الشاطئ بالتعاون أو التنسيق مع الحزب الوطني بطرابلس، وقد اختير السيد( عبدالرحمن البركولي) رئيساً لها والسيد ( محمد بن عثمان الصيد) نائباً له و كان الهدف منها هو نيل الاستقلال، وأعضاؤها هم الذين قابلوا اللجنة الرباعية المنبثقة من الأمم المتحدة حول ليبيا من أجل استقلالها وكان الاجتماع في يوم 26 أبريل 1948 في منطقة الزوية بوادى الشّاطئ.
عام 1962 شهد بَعْض التضييق على عمل المجتمع المدني وحركته، كذلك عدّلت بعض الحقوق وواجبات نقابة العمال بسبب إضراباتهم في الموانئ البحرية والجوية، بمقاطعة السفن والطائرات الأجنبية. الحراك الثقافي السلمي شهد نموا كبيرا بعد ذلك وكثرت المنتديات والنوادي الثقافية، وأثرت في الحركة الثقافية والفكرية في عموم البلاد، كما انطلقت الصحف المستقلة التي كان لها الفضل فى التواصل والحوار وتبادل الأفكار والآراء بين المثقفين والخبرات.