مؤسسات الدولة ومؤسسات النظام
عمر أبو القاسم الككلي
منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، تقريبا، أوجدت لنفسي صيغة إطارية للتعامل مع نظام معمر القذافي. ففرقت بين “مؤسسات الدولة”، و “مؤسسات النظام”. مؤسسات الدولة هي تلك التي توجد في أية دولة، حتى ولو كانت دولة احتلال. مثل وزارة الصحة والثقافة والعدل…إلخ. أما مؤسسات النظام فهي تلك المرتبطة بنظام معين وتزول بزواله. في الحالة الليبية مثل مركز دراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، واللجان الثورية وما يرتبط بها من مؤسسات ومؤسسة الرفاق والقيادات الشعبية. لم يكن لي اعتراض، مبدئي، على التعامل مع الأولى. وكنت أرفض، رفضا قاطعا، التعامل مع الثانية. وحتى عندما تولى صديق عزيز رئاسة تحرير مجلة “المؤتمر” وطلب مني الكتابة فيها رفضت، للسبب الموضح أعلاه. رغم اقتناعي بالخدمة الكبيرة التي أسدتها هذه المجلة، تحت رئاسة تحرير هذا الصديق. حيث فتحت صفحاتها للأقلام الجادة من المثقفين الوطنيين الليبيين، بل وأصدرت كتبا لكتاب وطنيين مهمشين.
هذا الصديق نفسه أبلغني باعتزام شركة ليبيا الغد على إصدار صحيفتين في طرابلس وبنغازي هما، على التوالي، صحيفتا “أويا” و”قورينا” وأنه سيرأس تحرير الصحيفة الأولى وطلب مني المشاركة بالكتابة فيها. لكنني رفضت بتعلة أن القوانين الليبية النافذة لا تجيز إصدار الصحف الخاصة وأن هذا تجاوز للقانون وتلاعب على حرية الرأي وحرية الصحافة، لست مستعدا للمشاركة فيه.
إلا أنني مع بداية 2009 كنت أمر بظروف صعبة وكنت محتاجا إلى دخل مالي يسند راتبي الهزيل لمواجهة هذه الظروف فخففت تصلبي الأول وقلت أنني لست صاحب ولاية بحيث أدقق في قانونية إصدار هذه الصحيفة أو تلك، وأن المهم في الأمر هو مضمون ما أكتبه فيها.
لذا كان أول مقال نشرته في صحيفة “أويا” في فبراير 2009 ردا على محاضرة للسيد أحمد إبراهيم منصور. عرضت المقال على السيد محمود البوسيفي، رئيس تحرير الصحيفة حينها، وقلت له هذا مقالي. إذا نشر عندكم فبها، وإلا سأرسله إلى عدة مواقع إلكترونية وأقول أنني قدمته للنشر في صحيفة “أويا” ولم ينشر. قرأ السيد محمود البوسيفي المقال بحضوري، وقال لي: لماذا لا ينشر؟!.
ونشر المقال فعلا، في أحد أعداد بداية فبراير من تلك السنة.
كان عنوان المقال: “الرؤية القطعية واحتكار الحقيقة”. وقد ابتدأته بالتالي:
“يغلب على ظني أن كل من استطاع أن يقرأ النص الحرفي[على ذمة موقع ليبيا اليوم] لـ” الندوة الصحفية” التي عقدها السيد أحمد إبراهيم منصور، الشخصية التي لا تحتاج إلى التعريف بها عند الليبيين، وكان من ذوي المران على تحليل ما يقرأ، لا بد أنه واجد أن تلك الاستطرادات التي تذهب في الاتجاهات الأصلية والفرعية، تدور، في النهاية، في فلك مبدأ الاحتكار. فالسيد أحمد إبراهيم يحتكر لنفسه خمسة ميادين على الأقل:
* يحتكر الحقيقة كاملة غير منقوصة. (كل الذين يخالفونه الرأي هم على ضلال.).
* يحتكر الوطن والوطنية. (جميع مخالفيه ومعارضيه عملاء لمخابرات، تقريبا، مجموع الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة[ أورد السيد أحمد إبراهيم قائمة بمخابرات خمس عشرة دولة، أنهاها بـ” إلى آخره”].
* يحتكر القومية العربية.
* يحتكر الدين.
* يحتكر الثورية.”
جاء مقالي بعد مقالين لكل من إدريس الطيب وأم العز الفارسي اللذين كذبا أحمد إبراهيم في بعض الوقائع التي كانا طرفين فيها، بالأحرى ضحيتين لها.
لم أتطرق أنا إلى الوقائع التي كنت، مثلهما، طرفا فيها وضحية لها، بل انصب ردي على مناقشة فكر أحمد إبراهيم. في الحقيقة مناقشة أطروحات القذافي ومنهجه في الممارسة السياسية، ولم يكن نقاشي لأحمد إبراهيم سوى تغطية لذلك. وأذكر أن الصديق سالم العوكلي اتصل بي حينها مبديا إعجابه بالمقال قائلا بأن إدريس الطيب وأم العز ناقشا، في مقاليهما، أحمد إبراهيم نهاية السبعينيات، أم مقالي فناقش أحمد إبراهيم الحالي.
وأضفت في ذلك المقال قائلا:
“وما من شك لدينا في أن “احتكار” هذه المجالات، من قبل أية جهة، يقود فعليا إلى “احتقار” محتواها الحقيقي. إن رؤية كهذه تتخذ منهاج عمل من قبل تيار سياسي يمسك بزمام السلطة في مجتمع ما تؤدي، دون ريب، إلى التسلط والمظالم. ذلك أنها رؤية تكفيرية(حتى وإن لم يكن الفكر المتبنى دينيا) تكفر الآخر المختلف فتخرجه من دائرة الإنسانية وتهدر دمه.”
واستطردت قائلا:
“إن صاحب الفكر الوثوقي الذي يكون ماسكا بمقاليد الأمور في مجتمع ما لا يمكن أن يكون محاورا. بل هو يدعو معارضيه(مع التهديد، ضمنا أو جهرا، باستعمال العنف) لا إلى الحوار، وإنما إلى نوع من الاستتابة والإذعان. ذلك أنه يذهب إلى الحوار وهو واثق من امتلاكه الحقيقة برمتها ومن قدرته على إقناع الآخر. وإذا لم يقتنع الآخر فليس لأنه كيان مستقل يمتلك منهجا مختلفا في النظر إلى الأمور ورؤية مختلفة للعالم، قابلة للتعديل، باتجاه التصليب أو باتجاه المرونة، كثيرا أو قليلا، وأن هذا حق طبيعي له، وإنما لأنه حاقد وموتور وألعوبة تحركه أطماع أجنبية.”
ومما قلته أيضا:
“يبدو أن السيد أحمد إبراهيم ليس قادرا على أن يستوعب، فعليا وليس قوليا، أن سيادة صوت واحد في مجتمع ما تشل المجتمع المعني وتفقر الفكر الذي يمثله ذلك الصوت نفسه. فالاختلافات والتعارضات والتعددية الفكرية هي بمثابة اللقاحات التي تنشط المجتمع وتقوي مناعته وتسهم في تطوير الأفكار المختلفة لفائدة ذلك المجتمع. ففي مناخ حر ديموقراطي تكفل فيه حرية التعبير سيضطر كل صاحب فكر إلى الرد على الآراء النقدية الموجهة إلى الفكر الذي يمثله بما يوسع آفاق هذا الفكر ذاته و ينميه. والفكر الذي لا يمتلك مقومات الدخول في هذا التفاعل سيضمر ويتراجع”.
بالطبع لا أريد إعادة المقال هنا، وإنما كان همي التركيز على الجدال الفكري الذي استخدمت فيه “محاضرة” أحمد إبراهيم وكان المقصود منه معمر القذافي. بالطبع لم يكن معمر القذافي غبيا بحيث لا يتنبه إلى لعبتي، لو قرأ المقال، ولا أجهزته الأمنية يمكن أن يفوتها ذلك. ولكن حساباتي كانت تستبعد قيام أحمد إبراهيم وأجهزة النظام بإيذائي. لأن النظام كان يتجنب حينها، لأسباب ليس هنا محل نقاشها، التورط في مزيد من الممارسات غير القانونية. كان خوفي الوحيد من أن يستغل أحمد إبراهيم ثغرة قانونية في مقالي تمكنه من رفع دعوى قضائية ضدي [لأن بعض وجوه النظام حينها صاروا يرفعون قضايا ضد منتقديهم بدل إيذائهم مباشرة]. لذا عرضت المقال قبل نشره على محاميين صديقين لينظرا فيه من الوجهة القانونية، فأكدا لي خلوه من المزالق.
بالطبع كان في فعلي شيء من المغامرة وأن تكون حساباتي خاطئة. لكنها، لحسن حظي، كانت صائبة.
الطريف في الأمر أن قريبا لي كان عضوا معتبرا في اللجان الثورية (لكنه لم يكن فاشيا) سألني عما إذا كان ثمة توجيه من معمر القذافي بشن حملة على أحمد إبراهيم وأن مقالي جاء في إطار تلبية هذا التوجيه!.