ليلة الفتاشة
ليبيا إدريس
بالرغم من التحول الدراماتيكي الذي أضفته القرارات الأحادية للقذافي إلا أن الليبيين لم يمتثلوا لإرادته، خصوصا في القضايا المتعلقة بارتباطهم الوثيق بإرث الأجداد وبتاريخهم الاجتماعي والديني على وجه الخصوص، نذكر اليوم أنه بالرغم من إلغائه التأريخ الهجري بقرار رسمي في عام 1979؛ حيث اعتمد التأريخ الهجري بوفاة الرسول الكريم وصادفت بدايته سنة 1399 للهجرة؛ وتحولت إلى 1388 من وفاة الرسول بفارق عشر سنوات بين التقويمين. اعتبر الليبيون في هذا القرار تحدياً للثقافة الدينية للشعب الليبي واستفزازاً لمشاعرهم وسلوكياتهم الإسلامية والتي ارتبطت بشعائر وسلوكيات وتقاليد محلية كما هي عربية وإسلامية. استمر عليها الليبيون، إلى جانب استمرارهم سرًا في التمسك بالتقويم الهجري الذي توارثته الأجيال وأرخت به أهم أحداثها. وألغي التاريخ الهجري من التقويم في ليبيا حتي قامت ثورة فبراير 2011.. وأعادت للتاريخ الهجري اعتباره رسميا باعتماده مجددا في الوثائق الرسمية وكعطلة رسمية.
هذا جانب مهم ونبذة عن تعاطي الليبيين مع العادات الشعبية المرتبطة بالمناسبات دينية، والتي أصبحت تقليداً متوارثاً، يطلق عليه السبر، وهي عادة يخشى إذا ما تم التخلي عنها، أن يتسبب ذلك في حدوث سوء.
نفرد هذه المساحة اليوم، لعرض مجموعة من عادات الاحتفال بالعام الهجري وبمقدم سنته الجديدة، حيث الاستبشار به، والاستعداد له بداية من عيد الأضحى الذي يسبقه بشهرين، فتعد لاستقبال العام الهجري العدة باختيار أجزاء محددة من خروف العيد (الكتف والقفص الصدري) ليتم تقديددها وتخزينها وحفظها بواسطة الملح والبهارات والأعشاب، لتصبح ما نعرفه بالقديد الليبي الأصيل، ليكون ضيف الموائد الشتوية ولتعد أول وجبة به ليلة استقبال رأس السنة الهجرية، وفي رمزية الطبخ على القديد الذي يمثل السنوات العجاف – كما تروي الجدات- إذانا بالعكس من عام خير ورزق وفير. كما تقول عائلات أخرى بحفظ رأس أضحية العيد الكبير ليضيفوه لمائدة ليلة التفاشة.
تسمى ليلة رأس السنة الهجرية عند الليبيين بـ الفتاشة، والفتاشة في الموروث الليبي هي شخصية وهمية من صنع المخيال الشعبي، تظهر على شكل امرأة عجوز تطوف على البيوت ليلًا لتفتش البطون، فمن وجدته قد شبع تربت علي بطنه ومن وجدته جائعا تملأ معدته الخاوية بالأحجار، بهذه القصة الشعبية (الخرافة) يقوم الكبار بإخافة الأطفال ليشاركوهم عشاء الكبيرة وينام الجميع على شبع.
على عشاء الفتاشة؛ تجتمع العائلة الليبية الممتدة في بيت الجد، وعادة ما تضمهم وليمة العشاء المكونة من الكسسكو مع قديد العيد الخاص بالكبيرة، ويستبشرون بضمة الشمل التي ترمز لها حبات الكسكسي التي تنتظم فيها العائلة كعقد واحد، احتفالا بمقدم العام الجديد، ويتبادل الجيران هدايا رأس السنة التي عادة ما تكون أطباقا من كسكسو الفتاشة في حركة تواصل مازالت قائمة كعادة محببة ولمسة متفائلة. بينما تظهر بعض الخصوصية في الطقوس الأمازيغية حيث تطبخ أكلة تسمى الهريسة أو (تيمغطال) بالأمازيغية، ومن مكوناتها العصبان المجفف، وقديد اللحم ورأس خروف العيد وعظام الأرجل السابق تحضيرها في عيد الأضحى.
بينما تحضر الهريسة بدق الشعير المنظف والمنقى في المهراس، حتى يصبح خاليا من القشور، وبعدها تنقع كمية الشعير المطلوبة في الماء لعدة ساعات، ثم تطهى في قدر خاص من الطين، وتغمر بالماء، وتترك على نار هادئة لبضع ساعات، وعند النضج، يضاف إليها البقوليات من فول وحمص وعدس وقليل من الحلبة ويمكن إضافة البازيليا الخضراء أو الجافة، ويضاف أيضا القديد الذي تمت الإشارة إليه سابقا، وعندما تقترب هذه المكونات من النضج يضاف لها معجون الطماطم والبهارات والبصل المحروق بطريقة خاصة والذي يسميه أهل الجبل (أحنحاني)، وقد يضاف الثوم لمن يريد.
ولا يكتفي الليبيون بالعشاء الدسم احتفالا بمقدم السنة الهجرية بل يرشون عتبات الأبواب بالجير أو الدقيق ليستقبلوا دخلة العام بالبياض، كما تتولى الأمهات قص جزء من شعر البنات كصدقة للعام الجديد فيتضاعف طول الشعر، ويقمن بتكحيل العيون وحناء الأصابع، لتستقبل الصغيرات العام الجديد بفرح وتفاؤل، هذه عادات تتم في أغلب نواحي ليبيا.
هذه الأكلات اللذيذة والمميزة، مع أهازيج الأطفال وهم يجوبون الشوارع ويغنون الأهازيج الدينية، هي السمة الطاغية على أجواء ليلة الفتاشة.
أما في مدينة هون الشاعرية بطقوسها المحببة، يتم الاحتفال بليلة رأس السنة حيث يعلق شحم محتفظ به من عيد الأضحى وهو ملفوف بقماش خاص من جريد النخيل وتعلق في اسياخ لتتحول الى مشاعل تنار بها ليلة العيد، يحملها الأطفال وهم يغنون (شحمة عيدك وين جريدك)، ويتم هذا في وقت تعلو فيه المآذن مرددة السيرة النبوية، وتوزع الحلوى على الأطفال ويتبادل الجيران أطباق من مأكولات عاشوراء، ننوه إلى أن كثير من العادات التي كانت موروثة ومحببة ومنتشرة ومتناقلة عبر أجيال الليبيين مُضيق عليها الآن وباتت تندثر أو تمارس بتحفظ نتيجة انتشار المد التكفيري، الذي طال العديد من العادات الليبية التي يصنفونها بحسبهم كبدع.
وهذه السنة تضاف الإجراءات الاحترازية من جائحة فيروس كورونا، ففي الوقت الذي ينصح فيه بالتباعد الاجتماعي يصعب اجتماع العائلات والاختلاط عن قرب، لتجنب انتشار الفيروس، وبالرغم من أثر هذه العادات في نفوسنا وأهميتها المعنوية لنا، إلا أن مسؤوليتنا الجماعية كبشر تجبرنا في هذه الفترة على تغيير عاداتنا وتقاليدنا، حفاظا على سلامتنا.
كل عام وليبيا بخير وأهلها يوقدون مشاعل الأعياد على سنن الأجداد.