ليبيا والميزانيات القياسية.. أبواب مُشرعة للإنفاق الحكومي دون رقيب
لم يكن مقترح الموازنة العامة الذي اعتمده مجلس الوزراء في الحكومة الليبية مفاجئاً لا من حيث ضخامة حجم المصروفات ولا من حيث توزيع المبالغ المرصودة على أبواب الميزانية، فالتوسع في الإنفاق الحكومي والاعتماد شبه الكلي على العوائد النفطية والازدياد الطردي في مصروفات الباب الأول وباب الدعم، كان سمة بارزة لدى الحكومات المتعاقبة رغم عدم اعتماد قانون الميزانية العامة بشكل رسمي من السلطة التشريعية لسنوات، حيث تلجأ الحكومات إلى فتح اعتمادات شهرية وفق نص المادة 178 من الإعلان الدستوري: “في حال عدم إقرار الموازنة قبل بداية السنة المالية يجوز لرئيس الوزراء الصرف على أساس واحد من اثني عشر (12/1) من موازنة السنة السابقة، بموجب مرسوم رئاسي فيما يتعلق بالمرتبات وما في حكمها والمصروفات العمومية، وذلك وفق ما يحدده القانون المالي للدولة”، وهو نص التزمت به حكومتا فائز السراج والدبيبة ظاهرياً، بينما عمدت إلى ترتيبات مالية مع المصرف المركزي تجاوزت فيه قيود النص.
وشهد الإنفاق الحكومي توسعاً لافتاً في ظل حكومة الوحدة التي ترأسها الدبيبة، حيث قادت السياسات الشعبوية التي انتهجها الأخير للرفع من مرتبات العاملين في القطاع العمومي والمقدرة بأكثر من مليوني موظف يشكلون نحو 88% من القوة العاملة في البلاد، يستحوذون على 33.1 مليار دينار بنسبة تقدر بـ 39% من إجمالي الإنفاق الفعلي في الموازنة، ورغم الانتقادات الواسعة لخطورة تضخم بند المرتبات في قطاع حكومي متداعي وغير إنتاجي، إلا أن الحكومة الليبية التي لطالما انتقدت غياب السياسات الاقتصادية الرشيدة في حكومة الدبيبة أضافت أكثر من 8 مليارات لبند المرتبات في مقترحها المقدم لمجلس النواب، مما يعني استمرار السياسة التوسعية في الإنفاق وشمول شرائح وظيفية أخرى للزيادات المقررة للمهايا والمرتبات.
وحافظت موازنة الحكومة الليبية على ذات التقديرات المقررة للنفقات التسييرية وباب التنمية وإعادة الإعمار، بالمقارنة مع نفقات حكومة الوحدة مع زيادة طفيفة بتوقعات إنفاق عند 17.7 مليار دينار للتنمية، و 8.6 للنفقات التسيرية، كما غاب باب الطوارئ في مقترح الحكومة الليبية الذي أثار العديد من الانتقادات ومثّل باباً مشرعاً للفساد وللإنفاق غير القانوني لحكومة الدبيبة، إلا أن الملاحظ في الموازنة المقترحة هو التوسع الكبير في الباب الرابع المخصص لنفقات الدعم، حيث شهد زيادة بمقدار 5.6 عن نفقات حكومة الوحدة المقدرة بـ 21 مليار دينار، وهو ما قد يثير تساؤلات عن احتمال استغلاله في نفقات أخرى غير تلك التقليدية لدعم سياسات اجتماعية أو شعبوية، حيث سبق لحكومة الوحدة تغطية نفقات منحة الزواج وعلاوة الأبناء من باب الدعم.
ومع استمرار سياسة الإنفاق على ذات الوتيرة دون أن تسجل الموازنة المقترحة من طرف الحكومة الليبية أي منحى إصلاحي، يثار التساؤل عن مصادر تمويل الموازنة العامة، حيث شكلت العوائد النفطية العام الماضي 98% من مواردها مع نجاح المصرف المركزي في تحييد عوائد بيع النقد الأجنبي وتجنيبه الإنفاق في أي غرض، كما أن الموازنة القياسية المقترحة والمقدرة بـ 94.8 مليار دينار قومت عند سعر صرف يبلغ 4.48 دينار مقابل الدولار الواحد، مما قد يعطل أي مساعٍ لتخفيض سعر الصرف الذي أثر سلباً على الوضع المعيشي للمواطنين.
ورغم الدعوات لإعادة هيكلة بنيوية للاقتصاد الليبي الريعي الذي تتجاوز فيه نسبة الانكشاف 90%، ويعتمد كلياً على الواردات الخارجية مما جعله شديد التأثر بالتقلبات الجوسياسية الدولية وتذبذب سوق النفط، إلا أن التساؤل العملي هنا عن موقف مصرف ليبيا المركزي من الحكومة الليبية، فهل سيلتزم بدعم نفقاتها أم أنه سيستمر في دعم حكومة الوحدة ومع تأثير ذلك على جهود توحيد المركزي في حال إعادة مشهد الانقسام المؤسساتي وتبعات ذلك على نمو الدين العام الذي تغيب أي بيانات رسمية دقيقة عن حجمه وآليات سداده.