ليبيا مصنع كبير للبلاستيك القابل وغير القابل للتدوير
سالم العوكلي
بعد أن تاهت مندوبيات الأمم المتحدة المتعاقبة في المتاهة الليبية التي تصل بها كل مرة إلى نقطة البداية، لم يكن أمام السيدة ستيفاني المفوضة بالنيابة إلا أن تعمل على اختزال الشارع الليبي المتضارب الأهواء والأنواء، وتفريغ الأطراف وتناقضاتها في جسم ميكروسكوبي يمكن إدارة أهوائه بطريقة أسهل ويمكن جمعه في قاعة واحدة في جنيف. على أي أسس اختير الخمسة وسبعون شخصية؟ مازال هذا السؤال يبحث عن إجابة، ولكن كان لابد من هذا الإجراء العملي كي يمكن لبوصلة الأمم المتحدة أنت تعمل في هذه المتاهة وتحدد الاتجاه. ورغم الحديث عن منطلقات عدة تحكمت في اختيار أعضاء ما سمي ملتقى الحوار السياسي الذي تحول أعضاؤه إلى صلاحيات تشريعية من شأنها وعبر التصويت أن تختار السلطات الليبية للمرحلة الانتقالية السادسة، إلا أن الاستقطاب الجهوي كان مسسيطرا في طقوس (الكولسة) وتقديم المرشحين والمحاصصة في داخل هذا الملتقى، وهو ما يعيدنا إلى لجنة الواحد والعشرين (مع الفارق الكبير) التي شكلها أدريان بيلت في العام 1950 كي تتوافق على حكومة وحدة وتنبثق منها لجنة تحضيرية لإنجاز جمعية وطنية تعمل على تجهيز الدستور للدولة التي لم يتفق على شكلها حتى ذلك الوقت، ومازال الجدال قائماً حول ما إذا كانت دولة فيدرالية أو موحدة. وأفضت معطيات الواقع التاريخي والجغرافي واللوجستي إلى اختيار شكل دولة فيدرالية دون أن يفرط في وحدة الكيان.
في هذا الفصل من فصول الملهاة الليبية، خرج علينا فجأة اسم محمد المنفي من مكان غير منظور كما خرج علينا فجأة في فصل سابق اسم فايز السراج، كلاهما لا حضور سابق له وغير معروف من قبل كثير من الليبيين ولا خبرة سياسة له، وكلاهما لا يتمتع بكفاءة إدارة هذه المرحلة الانتقالية الصعبة. ورغم أن كل القوائم لا تعكس توق الليبين إلى التغيير إلا أن ثمة بصيص من الأمل كان يراه البعض في قائمة عقيلة صالح وفتحي باشا آغا، وربما من منظور أن أي توافق يحدث بين الرجلين من الممكن أن ينعكس إيجابيا على توافق أكثر سعة. لكن القائمة الفائزة يستمر عبرها التحالف المؤذي بين رجال الأعمال والإسلام السياسي الذي أدى بليبيا إلى الهاوية طيلة السنوات الفائتة.
كما خرج علينا من مكان غير منظور رئيس الحكومة عبد الحميد ادبيبة، الذي أسمع به أول مرة وإن كان لقب العائلة اشتهر فترة النظام السابق بقربه من مكتب عقود باب العزيزية الذي أهله أن يحتكر كل مشاريع البنية التحتية لدرجة سمي وقتها (مقاول الجماهيرية على المفتاح). وبعد اطلاعي على سيرتيهما الموجزة جدا في ويكيبيديا لاحظت أنها سير لا تبشر بخير وأتمنى أن تكون خاطئة لأنها لو صحيحة فستكون كارثة جديدة.
سمعت أول مرة بلقب ادبيبة حين جاء العام 2009 على رأس جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية لإنجاز مشاريع في مدينة درنة حيث اجتمع وقتها بكل الدراونة ذوي الأصل من زاوية المحجوب وحولهم إلى مقاولين حينها ووزع عليهم المشاريع في درنة. وقد أخبرني بهذا الاجتماع صديق حميم من درنة ترجع أصوله إلى زاوية المحجوب حضر الاجتماع.
قبل خروج نتائج التصويت المفاجئة في جنيف راسلني صديق بأن القائمة المرشحة حسب ما تسرب هي قائمة عقيلة وباشاغا مرفقة بملاحظة (أفضل من قائمة أدبيبة الخطيرة). فالقائمة الفائزة كان اسمها قائمة علي أدبيبة، ومقاول الجماهيرية على المفتاح الذي كان ضمن لجنة الخمسة وسبعين. فهل كان للمال السياسي دور في هذه النتيجة المفاجئة التي لم يتوقعها أحد. لا أتمنى ذلك. غير أن الكلمة المهمة التي ألقتها السيدة فاطمة الزهراء لنقي بعد نتائج التصويت كانت تضمر شيئا ما حصل خلف الكواليس وعبر تأكيدها على مفردة (التدقيق) وأن الديمقراطية ليست تصويت فقط ولكن مبادئ ومواقف وتدقيق.
وفي النهاية فازت هذه القائمة، وعقبتها كلمات مشبعة بالرومانسية تتغنى بالشفافية وبستيفاني وبالديمقراطية، مع أن ما تم في جنيف لا علاقة له بالديمقراطية لكنه نتاج حالة هبوط اضطراري لطائرة مخطوفة للخروج بليبيا من هذه المتاهة والوصول إلى حكومة (وفاق) جديدة تهيئ البلاد لعودة المسار الديمقراطي الذي انقلب عليه تيار الإسلام السياسي عبر حرب فجر ليبيا التي كان أحد المرشحين لرئاسة الحكومة الجديدة من قادتها وكان أدبيبة العم من مموليها. وهي الانتخابات المقترحة في الذكرى السبعين لاستقلال ليبيا وحيث بعد هذه السبعين سنة نعود للمربع الأول مع اختلافات كثيرة تتعلق بالقيم. القيم الوطنية المحلية وقيم المجتمع الدولي حين كلف أدريان بيلت مفوضا، وقبل أن تتلوث تلك القيم الوطنية والدولية بهيمنة القوى والمال وسيطرة المصالح الشخصية للدول والأفراد.
وبهذا الاختيار تغادر ليبيا عصر المستشارين إلى عصر المهندسين، مع أننا جربنا حكم المهندسين عندما كان القذافي يوصف بمهندس النهر الصناعي وابنه سيف بلقب المهندس. وفي جميع الأحوال غابت الكفاءات والكاريزما والجدارة عن الاختيارات المتلاحقة للسلطات الليبية منذ انتخابات السابع من يوليو 2012 . وكأن قدر هذه البلد أن يحكمها الانتهازيون والسطحيون، وأن تُردم الكفاءات فيها منذ انقلاب التسعة وستين. مع احترام خاص أكنه للسيد موسى الكوني الذي قدم استقالته من المجلس الرئاسي حين حاد عن مهمته ورآه لعبة في أيدي أمراء الميليشيات.
من الواضح أن رئاسة المجلس الرئاسي كانت من حصة برقة، ورئاسة الحكومة من حصة الغرب الليبي، غير أن الأطراف المتصارعة لا تحكمها الأقاليم فقط ولكن التوجه الأيديولوجي او المنفعي الذي جعل الكثيرين من الشرق مثلا منتمين لكتلة الإسلام السياسي والكثيرين من الغرب منتمين للتيار المضاد في الشرق واختيار محمد المنفي باعتبار سكنه لا يشبع هذه المحاصصة المزيفة لأن هواه إسلاموي، وسيرته كما وردت في ويكيبيديا تؤكد هذا الانتماء سواء كان مصلحيا أو قناعة لا فرق . وبالقياس نفسه لو اختير مثلا د. علي عمر التكبالي كمواطن من قلب طرابلس ومضاد لمشروع الإسلام السياسي كرئيس للحكومة فهل هذا يحقق مبدأ المحاصصة وهل سيوافق عليه.
الحصيلة، ما حدث كله محاولة تدوير لبلاستيك صالح للتدوير وبلاستيك غير صالح للتدوير. وخسرت قوائم البلاستيك الصالح للتدوير لصالح البلاستيك غير الصالح للتدوير أصلا. وارجو أن لا تغضب مني السلطات الفائزة أو الخاسرة على هذا التشبيه لأن البلاستيك تطور وأصبح من أكبر الاقتصادات في العالم ودخل عالم المعادن الصناعية اللامعة من الباب الواسع رغم ما يسببه من تلوث بيئي . حقيقة أن الليبيين تعبوا من هذا المصنع السياسي لإعادة التدوير للطبقة السياسية نفسها، وإعادة التدوير الوحيدة التي طالما تمنوها للقمامة ومياه الصرف الصحي التي تتراكم في الشوارع وعلى عتبات بيوتهم وأمام مداخل المدارس وعلى جنبات الطرق والشواطئ.
قدم رئيس الحكومة برنامجه وهو برنامج أصعب مما يتصدى له الرئيس بايدن بعد حقبة ترامب (رجل الأعمال والعقارات أيضا). غير أن قربه من (زيف الأحلام) في زمن الأحلام ربما ألهمه هذا البرنامج الضخم الذي تعهد بتحقيقه في هذه الأشهر القليلة التي سيستغرق اعتماد حكومته إذا اعتمدت نصفها. لكنه لم يتطرق إلى الملف المهم وهو وضع الميليشيات والمرتزقة التركية وبالطبع لا يستطيع الآن ولا غدا أن يتطرق إليه. ومع أن كل الأحاديث الآن تدور عن المرتزقة الأجانب وكأنهم العقبة الوحيدة أمام التوافق الليبي ومسار دولته، غير أن المشكلة الأكثر خطورة تكمن في المرتزقة الليبيين وليس الأجانب أولئك المنضوون تحت ميليشيات مسماة على أشخاص والتي ينتفض أعضاؤها حين تتأخر مستحقاتهم المالية بالدولار أو الدينار التي يتقاضونها أسبوعيا. لا يمكن لأي تصور تخترعه الأمم المتحدة أو حتى الولايات المتحدة أو حسن النوايا الليبية أن يتقدم خطوة إلى الأمام طالما الميليشيات فاعلة ومتحكمة في كل سلطة جديدة حتى ولو جاءت عن طريق رومانسية ديمقراطية في صالة فارهة في سويسرا صمم فيروس كورونا ديكورها الحريص على التباعد الاجتماعي رغم أن التباعد السياسي داخل القاعة كان أكثر مسافة.
مثلما كان يخيفنا الحكام السابقون بأن لا بديل لهم سوى الإرهاب والفوضى، تخيفنا الآن السلطات الجديدة بأن لا بديل لهذه الترويكة سوى الحرب، وأعتقد أن البدائل كثيرة ليس أقلها خروج اليائسين من هذه الطبقة إلى الشارع من جديد والمطالبة بإسقاط النظام رغم أنه لا يمت لمفهوم النظام بصلة. مجرد مافيات تتلاعب بنا وبمصير هذا الوطن.
أتمنى أن أكون مخطئا في كل ما ذكرت ، ولحظتها لو أنجزت هذه السلطة الجديدة مهمتها ودحضت كلامي سأعتذر في مقالة أخرى. وفي حالة النجاح الذي أستبعده لأسباب موصوعية، سيكون الفائز هم الليبيون الذين عانوا عقودا من الوجع وأنا أحدهم. ولا أملك إلا أن أدعو الله أن يوفقهم ويجنبهم شرور أنفسهم لأن ما أوصل البلد إلى هذه الهاوية هي شرور أنفس من انتخبناهم أو من فرضوا أنفسهم علينا بقوة السلاح.
وأختم في النهاية بهذا المقتطع من مقالة نشرتها قبل 5 سنوات في موقع 218 تحت عنوان (رسالة مفتوحة إلى السراج) كتبتها لحظة حصول السراج على رخصة مزاولة أعمال الرئاسة من البرلمان حيث ذهب ولم يرجع أبدا، كنت اقترحت فيها مجتهدا الأولويات المتعلقة بالمصالحة الوطنية والحفاظ على أن تكون حكومته حكومة وفاق فعلي مهما تعرضت له من صعاب.
“وأخيرا أشير إلى أن الوعي بالمهمة التاريخية التي تتصدون لها ومن معكم أساسي لأن ما ستفعلونه سيدخلكم للتاريخ في كل الأحوال، سواء من باب المجد أو من باب العار الذي دخلت معه الحكومات والسلطات التشريعية السابقة، وهذا الوعي بالتاريخ هو ما ألهم رجالا ونساء عبر التجارب الإنسانية أن يحرصوا على النجاح وأن يخرجوا بلدانهم من الأنفاق المظلمة. الجغرافيا قد ترحم لكن التاريخ لا يرحم، وصناع التاريخ المشرف لأوطانهم ولهم شخصيا تميزوا بالنزاهة والحكمة والقوة”.
لكن السراج اختار أن يتحالف مع الميليشيات الخارجة عن القانون ومع الدول الإقليمية الداعمة للإسلام السياسي والإرهاب ضد شعبه وجعل من حكومة الوفاق حكومة شقاق أدخلت ليبيا في أنفاق معتمة وحروب ما كان لها أن تحدث لولا خياراته العنصرية وتخبطه في حضن الميليشيات. وعلى كل حال سيظل باب مزبلة التاريخ مفتوحا لكل من يخذل شعبه أو يبيع ضميره.