ليبيا… صراعات حزبية وفراغ دستوري؟
د. جبريل العبيدي
مرحلة كتابة دستور في ليبيا بدءًا من انتخاب لجنة الستين وصياغة الدستور والاستفتاء عليه، تتطلب من جميع الليبيين ترك التقصير في الواجب تجاه الوطن والشروع في المشاركة، حتى لا يتحول إلى تآمر على الوطن من خلال إذكاء النعرات الجهوية والقبلية والحزبية، وتلك مسؤولية النخبة بالدرجة الأولى لتعزيز مبدأ الحرية «فالحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تحضرها نخبتها لتحمل مسؤوليات استقلالها».
الدستور أهميته تكمن في كونه يحدد شكل الدولة وينظم السلطات العامة والواجبات والحقوق. والدساتير تنقسم إلى دساتير مدونة من خلال وثيقة مكتوبة، وأخرى غير مدونة وتتنوع من حيث طريقة تعديلها إلى دساتير مرنة، أي قابلة للتعديل، ودساتير جامدة، وقد تكون مرحلة كتابة الدستور بداية نهاية المخاض العسير، الذي تمر به البلاد جراء انتقالها من الشمولية والتفرد بالقرار في ظل تعطيل الدستور البلاد ونفوذ القرار على سلطة القانون، ومن حالة «الثورة» إلى بناء الدولة وما يترتب عليه عند صياغة الدستور…
أيضًا لا بد من مراعاة التمييز بين الدستور ومبدأ دستورية الحكم constitutionalism، فقد يوجد الدستور في غياب الدستورية، فالحكم الدستوري هو الحكم الذي تتوفر فيه قيود على ممارسة السلطة وتضمن فيه آلية واضحة للمحاسبة، فاتخاذ الحكومات سلطات مطلقة دستوريًا تجعل منها حكمًا شموليًا في ثوب دستوري، فلا يكفي إصدار التشريعات وتطبيقها، إذ لا بد من وجود مبادئ للتشريع تقيد الجنوح نحو الاستبداد وممارسته بقواعد تشريعية، فأغلب طغاة العالم مارسوا الحكم الشمولي والاستبداد والظلم من خلال قوانين وتشريعات شملها الدستور الذي كتب في غياب الشعب أو بتزييف إرادته.
فوجود الدستور دون مبدأ الدستورية، لا يعني بالضرورة أننا أمام حكم ديمقراطي خالص؛ فمبدأ الدستورية وُجِد لتقييد ومحاسبة وكبح جماح الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا حتى لا تتحول إلى ديكتاتوريات تحت مظلة الدستور وتمارس الاستبداد، وحتى لا يتحول الدستور إلى كومة من ورق لا قيمة لها في تحقيق حرية من خلال ديمقراطية مغيبة وممارسة المركزية بجميع أنواعها، في ظل غياب الدستور وتأخر كتابته وإطالة عمر المرحلة الانتقالية، وهي جميعها عوامل ساعدت على حالة من الاستبداد والاستئثار بالسلطة، فالمشهد السياسي الليبي تربكه وتؤثر عليه سلبًا تدخلات خارجية، وحالات من نزاعات مسلحة واقتتال واحتكام للسلاح، فليبيا ليست في حاجة لمزيد من الاستقطاب والمزايدة والرقص على جثث الضحايا.
لكتابة دستور الوطن لا بد من العودة إلى مكونه الاجتماعي ومراعاة الديموغرافيا، وإلا أصبح حرثًا في بحر لا طائل من ورائه ولا استقرار وسلم اجتماعي يُرجى منه، ولهذا يصبح لزامًا على من يُعنى باستقرار ليبيا وسلمها الاجتماعي النظر لتلك العوامل بدلاً من اللهث خلف أحزاب بعضها مستورد وممول من الخارج، ويحمل منهجًا ورؤية تعادي الدولة الوطنية وجغرافيا الوطن، بل وبعضها تحالف مع الإرهاب ليحكم الوطن بالرعب والتوحش.
ولا بد من المشاركة المجتمعية في صياغة الدستور، بدلاً من الجلوس في انتظار الدستور وممارسة السلبية، ضمن ثقافة ومنهج «حزب الكنبة»، فمن الواجب والحكمة والمصلحة العامة، وحرصًا على مصلحة الوطن، أن نشارك جميعًا في صياغة الدستور، من أجل التغيير، حتى أولئك الذين لهم موقف من لجنة الستين وآلية التصويت و«الكوته»، عليهم واجب المشاركة، فالدستور قابل للتعديل بإرادة الشعب.
صياغة دستور توافقي وليس بيد واحدة لا تصلح حتى للتصفيق، قد تتسبب في حالة رفض شعبي عام، لشعورهم بأن العقد الاجتماعي ليسوا طرفًا فيه.
المرحلة الحالية في ليبيا تتطلب كتابة دستور بدلاً من البقاء في حالة فراغ دستوري، ومراحل انتقالية تحولت إلى حالة إهدار للمال العام، وعبث بمصير البلاد، ومزيد من معاناة الشعب الذي طحنته صراعات ومناطحات حزبية متعددة الأوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية