ليبيا بين مطرقة “العولمة”.. وسندان “العوملة”
سالم العوكلي
قرابة خمس سنوات تمضي على بداية انتفاضة الليبيين على النظام السابق، وأربع سنوات تقريبا على سقوط هذا النظام ، وحوالي ثلاث سنوات ونصف على أول انتخابات تشريعية فاز فيها التيار الوطني وخسرها تيار الإسلام السياسي رغم توحيده للإخوة الأعداء، بشكل فاجأ المراقبين الذين كانوا يتوقعون أن يكتسح هذا التيار الانتخابات، لأنه الوحيد المنظم والمدعوم بحماس من قوى دولية وإقليمية، لكن سقوط حساباتهم يرجع إلى كونهم لا يعرفون شيئا عن هذا الشعب بعد أن كان اهتمامهم منصباً طيلة عقود على متابعة أخبار ومغامرات النظام السابق ورأسه.
أكثر من عامين تمضي على انتخاب هيئة إعداد الدستور ولا إحم ولا دستور، ولا شيء في الأفق سوى (حوار) لا ينقصه سوى الحوار، يعود كل مرة إلى المثلث الأول؛ مثلث المحاصصة بين الأقاليم الثلاثة. لا أي من أهداف فبراير تحقق بعد سقوط النظام، ولا دولة تشكلت أو توحدت وبدأت مؤسساتها في حل مشاكل الناس المتعلقة بأمنهم وقوتهم، رغم مئات الملايين التي تقاضاها المكلفون من قبل الليبيين بحل مشاكلهم، بل أن ما تقاضوه من مرتبات فلكية كان مقابلا لتخريب الحياة السياسية وتخريب حياة المواطن اليومية.
وطيلة هذه السنوات العجاف لم يُقدم أي برنامج علمي حقيقي ومدروس وواضح (حتى نظرياً) للخروج من الأزمة الشائكة التي وضعنا فيها هذا الصراع السياسي والمسلح على السلطة والنهم إلى المال.
منذ انتخاب المؤتمر الوطني وتشكيله لحكومته برئاسة الكيب، بدأ التلاعب بمستقبل هذه البلاد، وتراجعت الأولويات إلى حين إشعار آخر أمام زحام الأجندات وصراع الكتل، أو بالأحرى صراع الشلل داخل السلطات المنتخبة، التي من المفترض أن تكون ممثلة لرغبات وإرادة الناس. وبالمال حينا، وبالإغراءات أو التهديد أحيانا، وبضغوط الميليشيات المسلحة، هيمنت الأقلية الممثلة لما يسمى الإسلام السياسي، المكون من جماعة الأخوان القطبية وجماعة المقاتلة العائدين من أفغانستان، على المؤتمر الوطني، فانحرف عن مساره وعن المهمات المكلف بها وفق الإعلان الدستوري، ليتحول إلى جسم مؤدلج يشرع لإجراءات التمكين والإقصاء والانتقام وتصفية الحسابات القديمة، فأهدر الوقت الممنوح له في نقاشات اللائحة الداخلية، وقانون العزل السياسي، وقرار غزو مدينة بن وليد لتصفية حساب قديم مضى عليه قرن كامل، وتشكيل حكومة (أيش تبوقراط) لا حول لها ولا قوة.
وانتهت مدته الدستورية دون أن ينجز أي مهمة من المهام التي انتُخِب من أجلها، فطالب بالتمديد، لكن خروج الشارع الرافض أجبره على تشكيل لجنة فبراير من أجل إنجاز خارطة الانتقال السلمي للسلطة، وكان تيار الإسلام السياسي يعرف أنه سيخسر الانتخابات القادمة، لكنه كان مطمئنا لما أنجزه أثناء العامين من تمكين سيجعله مسيطرا على الوضع عن طريق ميليشيات الدروع المسلحة التي صرف عليها المليارات كي تكون بديلا للجيش الوطني خوفا من السيناريو المصري، وكانت الرغبة المضمرة تسليم السلطة التشريعية والتمسك بالسلاح والأرض لفرض أجندته على أية سلطة بديلة حتى وإن كان أقلية فيها، ووافق على أن تكون بنغازي المقر الجديد لمجلس النواب القادم لأنها تحت سيطرة الدروع والجماعات الإسلامية المتشددة التابعة لهذا التيار، وبالتالي فإن التوابيت جاهزة لتصطف أمام المقر الجديد إذا ما حدث أي نوع من الخروج على الطاعة، كما حدث في المؤتمر الوطني عبر إرهاب من كانوا ضد قانون العزل السياسي، ليُرغم المحامي الحقوقي نائب رئيس المؤتمر الوطني آنذاك على إدارة جلسة من أجل إقرار قانون يتعارض مع قناعاته وثقافته.
كانت اللعبة محبوكة، لكن انتقال مقر مجلس النواب إلى مدينة طبرق كان خارج الحسابات، وكان البداية في إجهاض هذا المشروع، فقاطع أعضاء التيار الإسلاموي مجلس النواب، واستخرجوا حكما من الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا المنعقدة وسط محيط من السلاح والتوابيت الجاهزة ببطلان مجلس النواب الذي انتخبه الليبيون في انتخابات حرة ونزيهة. وحين لم ينجح كل ذلك قادوا حربا سموها فجر ليبيا، ومعاركَ أطلقوا عليها تسميات دينية، للانقلاب على الشرعية، واحتلال العاصمة، وتدمير مطارها ومستودعات النفط، وغيرها من المراكز الحيوية، بطريقة تشبه الانقلاب الحوثي في اليمن الذي أدانه المجتمع الدولي ومجلس الأمن.
أما هيئة الدستور لم تستطع الاتفاق على الصياغة لأن الهيئة نفسها كانت ممثلة لأطراف تتحارب فوق الأرض، وكان من الطبيعي أن يتحول النقاش داخل هيئة إعداد الدستور إلى جبهات متقاتلة، وأصبح التفكير في الدستور ينطلق من تكتيكات تحفظ مكاسب آنية لأطراف الصراع وليس التفكير فيه كمدونة تهم الجيل الراهن والأجيال اللاحقة. والملاحظ عموما أنه طيلة هذه السنوات لا أحد انتُخِب بعد فبراير وتخلى عن منصبه أو لجنته أو هيأته رغم انتهاء المدة الدستورية، ويعود هذا التشبث بالكرسي إلى المرتبات العالية التي تصرف مقابل المنصب، ما يعكس سلوكاً ليبياً أصيلا تكرس في ظل فوضى السلطة الشعبية: التمسك بالكرسي، أو المنصب، وفي أسوأ الأحوال التمسك بميزات هذا المنصب إذا ما فرض عليه التنحي كما كان يحدث فترة التصعيد الجماهيري، عندما يرفض المسؤول المُصعّد تسليم ما في عهدته إذا ما أُضطر لتسليم منصبه.
ضمن كل هذه الفوضى، والفوضى المضادة، لم يكن للسلطات التنفيذية الممثلة في الحكومات المتعاقبة أي دور حقيقي، وكانت مجرد هياكل بائسة تختفي خلف النواب ذوي النفوذ وخلف الميليشيات وأمراء الحرب الذين يديرون كل شي. وهي حكومات جاءت عموما دون أن تقدم برنامجا حقيقيا لبناء الدولة، أو حل الأزمة، واكتفت ببيانات بائسة حُررت من خلال تفريغ إنشائي لأهداف انتفاضة فبراير.
لقد مرت كل هذه السنوات دون أن تظهر علينا أي خطة، أو رؤية، أو خارطة طريق، من قبل هذه السلطات المتتابعة، يمكنها أن تضع إصبعها على جرح الليبيين النازف، أو تقترح حلولا لها علاقة بالراهن والمستقبل بشكل واضح ومدروس. لا أحد كان له تصور أو مشروع باستثناء شخصيتين اعتبرهما شخصيا صاحبَي مشروع ، أحدهما أُقصي من المشهد السياسي، وأحدهما في قلب المشهد العسكري .
د. محمود جبريل الذي قدم مشروعا مدونا أعلن عنه في خارطة الطريق التي أنجزها في الشهور الأولى لانتفاضة فبراير، وجاءت بالاعترافات الدولية متتابعة، لكنها استبدلت بعد سقوط النظام، عبر تغلغل جماعة الأخوان داخل المجلس الانتقالي، بخارطة تحفظ مصالح الجماعة وتمكنها من مفاصل المزرعة الليبية حتى لا أقول الدولة، ومن ثم البرنامج الذي قدمه جبريل أمام المؤتمر الوطني كرئيس وزراء مرشح، والذي رسم وفق تخصصه في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار، ووفق معرفته الجيدة لطبيعة الأزمة الليبية وتداعياتها المستقبلية، تصورا مدروسا لآليات بناء الدولة على أسس قوية، حيث اعتبر أن المصالحة الوطنية هي الفرشة التي لا يمكن العمل إلا فوقها، مؤكداً على أن للقوة الاجتماعية والقبائل دور مهم في هذه المصالحة، إضافة إلى ما يتبعها من تحريك لعجلات الاقتصاد كي تمتص كل الطاقات المعطلة والمهدرة في صراع مجاني لا أهداف له.
والمشروع الثاني الواضح هو مشروع المشير خليفة حفتر، غير المدون، والممارس على الأرض منذ أن شكل نواة معركة الكرامة كمعركة دفاع عن النفس بعد أن اغتيل أكثر من 500 عسكري بدم بارد، ومن ثم كمعركة مزدوجة يتم من خلالها محاربة الإرهاب الذي تفشى في جميع أنحاء ليبيا، والتأسيس لجيش وطني مهني كضمانة أساسية لبناء الدولة والحفاظ على المسار الديمقراطي والدستور . وقد أعلن صراحة أن مشروعه الجوهري يكمن في القضاء على الجماعات الإرهابية المنتشرة في أنحاء ليبيا وتوحيد المؤسسة العسكرية الاحترافية لضمان توحيد ليبيا، وقد صرح أكثر من مرة باستعداده إذا ما طالب به الناس يوما للنزول إلى صناديق الاقتراع كمرشح للانتخابات الرئاسية وفق المسار السياسي المدني.
هذان مشروعان وطنيان واضحان، سواء اختلفنا أو اتفقنا معها، وربما لهذا السبب تم تفصيل قانون العزل السياسي على مقاس هاتين الشخصيتين لإقصائهما من المشهد، لأن ما يطرحانه يعتبر تقويضا لأجندات ومخططات تقودها دوائر إقليمية ودولية لها مصالحها المختلفة عن مصالح الليبيين. ولعل الإصرار من قبل هذه القوى على دعم وتثبيت المجلس الرئاسي الذي أصبح طرفا في الصراع يثبت ما ذهبنا إليه من كون الصراع في ليبيا الآن بين تيار وطني له رؤيته ويعتبر الدعم الشعبي شرعيته الوحيدة، وتيار عولمي يرتجل مخططاته وفق المتغيرات الدولية المتسارعة معتبرا دعم المجتمع الدولي شرعيته الوحيدة.