مالك العثامنة
في مقابلة أواخر ثمانينيات القرن الماضي مع مراسل غربي، سأل المراسل الدكتاتور الليبي الراحل معمر القذافي عن ظاهرة شاهدها المراسل بنفسه وهو يتجول في أحياء وشوارع العاصمة الليبية طرابلس تتعلق بفوضى الكتابات على جدران العمارات والمباني.
طبعا لم يفوت القذافي تلك الفرصة للفذلكة على طريقته المعهودة فأجاب بأن الليبيين يعملون على تفريغ قهرهم التاريخي الطويل من الاستعمار الغربي. ثم أضاف مخاطبا المراسل: عد إلينا بعد ثلاثين سنة، وستجد أن الليبيين أنفسهم قد مسحوا تلك الكتابات بأيديهم عن الحيطان!
ما حدث فعليا بعد ذلك بما يقارب الثلاثة عقود، أن الليبيين بأيديهم مسحوا العمارات والمباني والجدران والدولة كلها. والقهر لا يزال موجودا.
الخطورة مضاعفة فيما لو توفر لتنظيم مثل داعش الملاذ الآمن في ليبيا
راح القذافي إلى مصيره البائس، وهو الذي اشتهر بكل تقليعاته الغريبة وطقوسه المثيرة للدهشة حد الطرافة والسخرية، وأزيل النظام والدولة معا، مما يعكس هذا الارتباط العضوي السيامي بين شخص القذافي وحده مع الدولة التي أسسها في ليبيا.
مشهد أول:
مما كان في القطار السريع بين بروكسل وباريس حديث طويل مع سيدة ليبية كانت جزءا من نظام القذافي وقفزت إلى عربة الثورة في الوقت المناسب لنجاتها، فحدثتني بأغرب ما سمعت عن القذافي لتؤكد لي أن معمر القذافي لم يكن مجنونا، بل كان يتصنع الحركات الغريبة ويبدل تعابير وجهه حال إدراكه وجود كاميرات تصوره، وأنه في خلواته مع مقربيه كان شخصا عاديا جدا بالغ الهدوء وضبط الأعصاب، وأنه في حال لاحظ دخول كاميرا ـ أي كاميرا ـ فسرعان ما يبدل ملامحه وتتلبسه حالات النزق الثورية التي اشتهر بها.
اقرأ للكاتب أيضا: الإصلاح الديني في العالم العربي: نزوة سياسية أم ضرورة تاريخية؟
… وانتهينا إلى ليبيا ممزقة بين مليشيات ثورية قذافية، وثورية على كل ما مثله القذافي، وثورية على كل ما سبق ذكره من ثوريين، وبين كل هؤلاء، يتسلل ثوار الكهوف القادمين من القرن السابع الميلادي، ومن كل أصقاع الأرض لتصبح ليبيا قريبا بديل قندهار الأفغانية والرقة السورية.
يشير الكاتب الأردني سامح المحاريق في مقال له في القدس العربي أواخر عام 2015 إلى أن انهيار دولة القذافي الكرتونية أثمرت عن انكفاء ليبيا تاريخيا والعودة بها إلى تقسيماتها الثلاث، برقة وطرابلس وفزان.
في جغرافيا فزان المعتمة والعصية على رادارات الكشف الجيوسياسي، خزانا محتملا لفلول داعش
فزان تلك التي يرى فيها المحاريق ونتفق معه أنها “بقيت إلى اليوم في منطقة رمادية تغيب وراء اشتعال الموقف بشتى ألوان الخطر والغموض في برقة وطرابلس، فزان ربما تكون، وغالبا ما ستكون إن لم يلتفت العالم بجدية إلى واقعها، الأرض الجديدة التي ستشهد تلاقحا وحشيا بين عصابات داعش وقطعان بوكو حرام، مسخا جديدا متعدد الرؤوس يستغل تربة من الجهل والفقر والفوضى لينمو سرطانيا في أرض على قدر من الجدب والصعوبة بحيث تجعله يتسلل فيها كماء أريق على تراب”.
اليوم، بعد هذه القراءة التحذيرية بما يقارب الثلاثة أعوام، نجد أن في جغرافيا فزان المعتمة والعصية على رادارات الكشف الجيوسياسي، خزانا محتملا لفلول داعش وكل من والاهم للهروب إليها وتأسيس “إمارتهم” لتكون تلك الصحراء الجنوبية في ليبيا والمتاخمة لكل مجاهيل أفريقيا جنوبا، مقرا ومستقرا للراديكالية المتطرفة التي استنبتها التطرف الديني في أفغانستان ثم العراق وسورية.
مشهد ثان:
في لقاء صحفي عام 2014 وعلى العشاء مع محمود جبريل أول رئيس وزراء ليبي بعد الثورة على القذافي، لم يخف الرجل مخاوفه من تحول ليبيا إلى مخزن تجميع للراديكالية المتطرفة وبتمويل من دول عربية بعينها بحيث تحقق في ذلك هدفين: إبعاد هؤلاء المتطرفين عن مجالها الحيوي واستخدام هؤلاء كأدوات لتنفيذ سياسات إقليمية تخدم تيار الإسلام السياسي.
وعليه، فإن تنظيما يحمل كل تلك الأيدولوجية القاتلة مثل تنظيم داعش، في أجياله المتلاحقة التي تتطور جيلا بعد جيل في موهبة الاختفاء والظهور من جديد عبر الخلايا النائمة التي تتشرنق بالتطور التكنولوجي، واتباع هذا التنظيم أسلوب حروب العصابات في انتشاره، فإن الحديث عن دحره في جغرافيا محددة والانتصار عليه لا يعدو أكثر من انتصار على وجوده في تلك الجغرافيا فقط. فقدرته على إيجاد مناطق آمنة يلوذ بها كلما تشرذم ليتجمع من جديد، هي مكمن خطورته. وهذه المرة الخطورة مضاعفة فيما لو توفر له الملاذ الآمن في ليبيا، التي تشهد أصلا مقرات تحول بعضها على إمارة ناجزة، قابلة للتمدد بوحشيتها حتى تخوم السواحل القريبة من أوروبا والمتوسط، وقابعة على أحد أهم بحيرات النفط في العالم.
في الخلاصة؛ الحل الوحيد، هو الانتباه الدولي والجاد نحو الملف الليبي، وحسم القضية الليبية نحو الدولة والمؤسسات وتحرير الإنسان الليبي من إرث ثورة القذافي وموروثات الثورة على القذافي بكل ما فيها من دم وثارات وعصبية، والخروج من متاهة المبعوث الدولي الذي تغير أكثر من مرة عاجزا عن لملمة أطراف الصراع ولو مرة واحدة على طاولة حوار جادة تحقق المصلحة للجميع وإلى الأبد.