لماذا يتحكم الحمقى ؟
طه البوسيفي
وأنت تخوض في أسفار القراءة وتبحر في أعماق المعرفة يحدث أن تعترضك أفكار تعلق في ذهنك وتمسك بتلابيب عقلك ، وعلى كثرتها وكثرة تشغيباتها وإلحاحاتها يحدث أيضاً أن تتشكل في وعيك على هيئة أسئلة خشنة وثقيلة تدق جمجمتك حاثة إياك على الإجابة عنها ، وأنا مِن هذا لست استثناءً ، فخلال الممارسة اليومية لفعل القراءة الذي أقبل عليه بكل حب وشغف وجدتني مضطراً للتفاعل الإدراكي _بتعبير شوبنهاور_ مع فكرة تكونت في جسد السؤال التالي : لماذا لا نرى أفضل الناس وأكفأهم يتقلدون المناصب _ أي مناصب _ سواء أكانت في مؤسسة حكومية أو هيئة عامة أو حتى مؤسسة خاصة صغيرة مهما كان نوع المنتج الذي تسوقه ؟
وفي إطار هذه المهمة المتعبة تعثرت في الفكرة المعاكسة حين جنيت على نفسي ، أو هي التي جنت عليّ حين قالت : لماذا لا ترى الأمر عكسياً ؟ هذا العالم صحيح بأنه لا يحكم من الأذكياء والأكفاء ، لكن لماذا الضد والنقيض ؟ لماذا يحكم الأغبياء ؟ لماذا الحمقى والبلهاء وقليلو الحيلة ومعدومو أدوات التمكين هم الممكنون في الأرض ؟
يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل إن مشكلة العالم تكمن في أن الأغبياء واثقون أشد الثقة بأنفسهم وبآرائهم ، بينما الأذكياء تملؤهم الشكوك دائماً .
من السهل الإجابة عن سؤال : لماذا الأذكياء تملؤهم الشكوك ؟ ذلك أن الذكاء يقترن بالعلم والثقافة كونهما مسلكان مهمان للتنمية ، وهما خصيصتان تحيل الإنسان إلى تلميذ على الدوام ، وتجعله يعترف_ بكل رضا_ بأن ثمة أشياء لا يعرفها ، وهذه الفكرة العميقة تشكله من حيث الأنا ، وتعيد طرح أفكاره وبالتالي شخصيته ، فيصبح شكاكاً ، ومتواضعاً أمام المعرفة كونها فعل تراكمي ، ويصبح_ بكل بساطة _غير قادر على الحسم بسهولة في الموجودات من حوله .
لكن _وفي رأيي المتواضع جداً_ من الصعب الدخول إلى أعماق الأغبياء ومعرفة أسرار هذه الراحة الكبيرة التي تمكّنهم من الحسم في قضايا شائكة جداً ، وإطلاق الأحكام النهائية بكل سهولة ويسر من دون أن يطرف لهم جفن ، بل وتقديم آرائهم المقززة أحياناً على أنها حلول مثلى من حيث النظرية ومن حيث الواقع ، وستخلص البشرية جمعاء من كل مشاكلها التي تراكمت عبر كل العصور .
ورغم الانحياز الجارف للأذكياء على حساب الأغبياء ، والذي هو انتصار للذكاء كونه مزية ، واحتقار للغباء كونه منقصةً ، ثمة شواهد في هذه الحياة “الدنيا” تخربنا بكل وضوح ، بإن هناك أغبياء وحمقى وقليلي معرفة استطاعوا أن يتركوا أثراً لم يتركه الأذكياء برغم الفوارق الكبيرة بينهما والتي أجدني حزيناً جداً لعدم مقدرة العامة من الناس اكتشافها وإدراكها ، وهذه تفريعة لابد من البحث فيها كونها مرتبطةً تماماً بالفكرة الأم ، وهي غياب الأذكياء وأولى المعرفة ، وحضور الحمقى النائمين في الغفلة .
في رحلة البحث والتقصي قرأت عن دراسة اسمها “تأثير دانينغ كروجر” لعالمي النفس الاجتماعي ديفيد دونينغ وجوستن كروجر التي حاولت دراسة العلاقة بين الخبرة والثقة بالنفس ومعرفة التشابك الحاصل بين المفهومين وهل ثمة اضطراب في العلاقة أم لا .
شراح هذه الدراسة يقولون إنها تظهر علاقة عكسية بين مقدار المعرفة التي يمتكلها الشخص ومقدار المعرفة التي يعتقد أنه يمتكلها ، وأنه كلما زادت ثقة الشخص بأنه ملم في مجال معين كلما قلت المعرفة الحقيقية في هذا المجال ، وكلما انخفضت الثقة في مجال معين ، كلما امتلك هذا الشخص معلومات أكثر عنه .
في المنحنى الرياضي الذي استعمل في الدراسة ، كان الخط الأفقي يمثل (الخبرة أو المعرفة ) ، وكان المنحنى العمودي يمثل (الثقة بالنفس) ، تمت ملاحظة أنه في أوائل تشكل وعي الإنسان في قضية ما تكون ثقته بنفسه عالية جداً وتصل إلى مئة بالمئة ، على الرغم من أنه لا يمتلك أي معرفة حقيقية عن القضية محل النظر ، إنما هو في واقع الأمر يتوهم أنه يعرف ، ولكن حين يدخل ويتمعن تبدأ الثقة في الانخفاض إلى أن تصل لمرحلة الشك ، ومع تراكم المعلومات وتكون المعرفة إثر ذلك يبدأ مؤشر الثقة بالارتفاع لكنه لا يصل إلى نسبة مئة بالمئة التي هي عند الشخص الجاهل .
الباحث الإيطالي أليساندرو بلوتشينو وبعد أن أجرى مع مختصين بحثاً مطوًلاً عن المثابرة والذكاء وكيفية عملهما توصل وإياهم إلى نتيجة مؤداها أن المجتمع لا يكافئ الأكثر كفاءة والأكثر مقدرة والأكثر ذكاءً .
المتعلمون والخبراء والمثقفون ومن يحاولون السير على الدرب مزعجون لغيرهم الذين يعتقدون أن هذه المعرفة هي مصدر خطر وبالتالي يسنون الرماح ويشحذون السيوف لإبعاد هذا الخطر الداهم عليهم ، فتجدهم على الدوام يعيشون في حالة قلق ، ولا يتوانون في استعمال كل الوسائل الشريرة والقذرة في التخلص منه لكي يخلو لهم وجه المنصب أو الوظيفة المرموقة وحتى غير المرموقة ، وهذه تفريعة جديدة من تفريعات هذه المقالة المشوشة .