لكل حادث برلين
سالم العوكلي
لماذا يؤجَّل باستمرار مؤتمر برلين الذي يعتبره البعض، إذا ما نجح، آخر محطات الأزمة الليبية، باعتبار أن المشاركين فيه هم القادرون على لجم القوى الإقليمية والأطراف الداخلية، وهم المخولون، حين يتفقون، بحل الأزمات المستعصية؟ لماذا تنزعج البعثة الأممية في ليبيا من دور مجلس الأمن في الملف الليبي ، مجلس الأمن المختزل في دول حق الفيتو التي تعني بدورها (المجتمع الدولي) ؟
أسئلة إجابتها ليست صعبة ، لأن سبب هذا الخلاف حول الليبي تديره مصالح هذه الدول وشركاتها الضاغطة، ولأن هذه الدول لم تتفق بعد على جدولة حصصها من المائدة الليبية ، أما حديثهم عن معاناة المواطن الليبي وعن استقرار ليبيا فكله مجرد هراء، لأن كل من هذه الدول الفاعلة تبحث في الواقع عن استقرار اقتصادها، أو حماية شواطئها من الهجرة، أو عن زيادة رفاه مواطنه أو فوز حزبه من خلال الورقة الليبية المؤجلة في زحام الأوراق الأكثر أهمية في منطقة كلها على صفيح ساخن.
ما يسمى المجتمع الإقليمي الذي ترك له المجتمع الدولي وقتا للتعامل مع فتات المائدة الليبية فهو أيضا يبحث عن مصالحه أو عن تصدير أزماته، وطبيعة التدخل مختلفة لأسباب موضوعية، فمصر دولة مجاورة معنية باستقرار ليبيا وتأمين حدودها الغربية الذي لا يتحقق إلا بوجود جيش موحد، كما أنها معنية بعودة ملايين العمال المصريين إلى سوق العمل الليبية، إضافة إلى المساهمة في أعمال إعادة الإعمار، وهو حق طبيعي لها كطرف تضرر من نمو الإرهاب في ليبيا وكدولة جارة لها تملك موارد ضخمة وفي حاجة لليد العاملة، أما الإمارات البعيدة عن الحدود الليبية فهي تخوض صراعا مع قطر حول مناطق النفوذ، متمثلا في إدارة الموانئ خصوصا والغاز الذي يشكل قلقا لقطر كاقتصاد معتمد في الأساس على تصدير الغاز المسال الذي يهدده الاستقرار الليبي بمورد أقل تكلفة وأكثر حجما وقربا من السوق الأوربية، إضافة إلى الدعم المعلن الذي تشترك فيه مع تركيا لجماعات الإسلام السياسي وأذرعه الإرهابية، غير أن هذه الدول كلها سيتوقف دورها بمجرد اتفاق الدول الكبيرة الفاعلة لأنها لا تشكل لها سوى صدى، وحين تعود الأسود إلى الفريسة تهرب الضباع كما تخبرنا قوانين الغابة التي بدأت تحكم الكوكب.
أما الجماعات أو ما يسمى ظلما الميليشيات المسلحة (لأنها في الواقع مجرد عصابات) فهي لا تدافع عن طرابلس من أجل الدولة المدنية كما تدعي، ولكن دفاعها المستميت عن المصرف المركزي ومؤسسة النفط اللتين اختزلت ليبيا فيهما، ولو انتقلت هذه المؤسسات إلى أي مكان لانتقلوا خلفها للدفاع عنها. أمراء الحرب انتقلوا في سنين محدودة من تحت خط الفقر إلى نادي المليونيرات وهذه مصالح يجوز الجهاد دونها كم يفتي مفتي الديار .
في قلب هذا الصراع تكوَن جيش وطني بصعوبة وفق قرار من مجلس النواب المنتخب وآخر سلطة تشريعية، واستطاع السيطرة على الشرق والجنوب والتخلص إلى حد كبير من هذه الجماعات التي كانت تُكفِّر وتخطف وتذبح وتلعب بالرؤوس أو تضعها في قصدير على الأرصفة، يطلق عليهم إعلام الإسلام السياسي (الثوار) وهم يتسكعون براياتهم السود في شوارع المدن التي سيطروا عليها قبل تحريرها، يهاجمون صناديق الاقتراع كمظهر للكفر، وينكلون بكل معارض لهم من المؤسسة الأمنية أو ناشطي المجتمع المدني أو القضاة باسم الدفاع عن الثورة، ومن هرب منهم يقاتل الآن في طرابلس تحت راية المجلس الرئاسي العنصري الذي يدفع ملايين الدولارات لمهرج قديم كي يصف سكان الشرق بالهمج أو القرامطة، والعجيب أن هذه الحكومة التي لا تخفي عنصريتها تجاه أكثر من نصف المجتمع الليبي تسمى في الأوراق الرسمية (حكومة وفاق).
العالم الذي تتضارب مصالحه يؤجل مؤتمر برلين رغبة في تغير الموازين على الأرض لأنهم يدركون طبيعة من يحاربون في طرابلس وهم الحلفاء ضمنيا في حرب كونية على الإرهاب، غير أن مراهنة بعض الدول على الطرف الخاسر، عاجلا أو آجلا، يشكل لها مشكلة في إستراتيجيتها تجاه الملف الليبي ، فهي في النهاية لا تريد أن تخرج من المولد بلا حمص، ووقوفها مع الطرف الذي يسيطر على أقل من عشر الأرض الليبية يبدو غريبا، لكنها تدرك أن هذا العشر هو الأهم باعتباره يحوي المصرف المركزي ومؤسسة النفط وشركة الاستثمار الخارجي، وبالتالي فإصرارهم على وقف الحرب على تخوم طرابلس محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأجسام أو الأشخاص الحليفين لهم في العاصمة.
وسط هذه التجاذب ما زالت البعثة الأممية تبحث عن وفاق دولي تجاه ليبي بعدما عجزت على تحقيق وفاق وطني أصبح تقريبا مستحيلا أمام شدة الاستقطاب، فهي بعثة ورثت تركة رؤساء البعثات السابقة، وكان أسوأ ما في هذه التركة ما يسمى اتفاق الصخيرات المشبوه الذي أنتج حكومة وفاق اعترف بها الخارج ولم يعترف بها الداخل، وهذه الحكومة ؛التي نصفها مؤدلج إسلامويا ونصفها عنصري، هي التي زادت الأزمة اتساعا وعمقا بعد أن تخلت عن مهامها الأساسية في الترتيبات الأمنية وتفكيك الميليشيات، وأصبحت مجرد شرعية مخولة بالتوقيع على الصكوك التي تدفع لهذه الميليشيات وجناحا سياسيا لها يدفع المليارات لشركات الترويج الدعائي في الغرب والشرق، بينما القوى الكبرى المدعوة إلى برلين تدرك عبر تقارير استخباراتها أن الحكومة المعترِف بها من قِبَلهم لا حول لها ولا قوة، وأن المقاتلين المدرجين في قوائم الإرهاب أو العقوبات الدولية هم من يسيطرون على القرار في العاصمة، وهذا الإدراك هو ما جعل مجلس الأمن يعجز عن إصدار قرار بإدانة الحرب على طرابلس رغم إلحاح بريطانيا التي مازالت تراهن على ربيبتها جماعة الإخوان، وما يجعله الآن يؤجل مؤتمر برلين لعل الترتيبات الأمنية التي عجزت حكومتهم عن تحقيقها يحققها الجيش الليبي وحينها لكل حادث برلين.