لحظات ليبيا الصعبة
خالد عكاشة
الاتفاقات التى وقعت ما بين تركيا وما يسمى بـ«حكومة الوفاق» أدخلت المشهد الليبى فى دوامة معقدة من الأحداث، البعض منها بحرى يتعلق بترسيم الحدود البحرية ما بين تركيا وليبيا، وهذا يُدخل الأخيرة طرفاً فى حالة متصاعدة من الإشكاليات مع كل من اليونان وقبرص، وبالتبعية مصر وإيطاليا نظراً لارتباطها بصورة متقاطعة مع تلك الحالة الجديدة. والوضع فى ليبيا بالنظر إليه ما قبل هذه الخطوة لا ينقصه تخمة من التعقيدات الأمنية والسياسية، فلم يكن المشهد يحتمل هذا المزيد، الذى لم يقف عند الجانب البحرى منه، فالجزء البرى المتعلق بالمساعدات العسكرية التى تتكفل تركيا بتقديمها إلى «حكومة الوفاق» بطرابلس، ضد الأطراف التى قد تشكل لها تهديداً، يفتح الأبواب على مصراعيها أمام تعميق الأزمة الليبية، فضلاً عن سماح ما زال غامضاً فى تفاصيله أمام وجود وتوغل عسكرى تركى صريح فى ليبيا، على شاكلة الوجود والترتيبات التى جرت وتجرى فى سوريا.
فيما سبق هناك زاوية مقلقة بشكل كبير حتى الآن، وهى تغافل الأطراف الدولية المؤثرة عن الجزء البرى والعسكرى من الاتفاقيات التركية مع السراج، واقتصار التنديد والخطوات الإجهاضية على مسألة ترسيم الحدود البحرية، والفوضى المتوقعة فى التنقيب واقتسام ثروات غاز المتوسط. هذا بدا فى تحركات اليونان وقبرص ومن خلفهما الاتحاد الأوروبى، كما ظهر بصورة جلية فى حديث إيطاليا وفرنسا وإن ضمنا مسألة الاتفاق العسكرى فى خطابهما، لكن على نحو خجول يثير قلقاً حقيقياً. بل هناك تشوش بصورة أو بأخرى لدى المواقف الأمريكية والروسية، البعض منه يبدو متعمداً فيما يخص التنافس البينى بينهما على مساحات النفوذ، وفى جانب آخر منه يعبر عن نفسه بهجوم حاد، بدا مؤخراً وكأنه ميعاد لإخراج بعض من الأسرار المسكوت عنها. مثلما جرى الإفصاح عن وجود قوات عسكرية روسية «غير نظامية»، تتبع شركة «واجنر» للخدمات الأمنية، وأنها تقوم بمهام عسكرية لصالح قوات الجيش الوطنى الليبى وللمشير حفتر شخصياً، كما جرى تداوله بل واستخدامه ذلك كذريعة من قبل تركيا للهرع إلى تقديم مساعدات عسكرية صريحة لجانب «الوفاق» فى طرابلس، فى نغمة متناسقة تماماً مع الجانب الأمريكى فى التوقيت وفى فعل الترويج الإعلامى!
الأمر هنا يثير تساؤلات بأكثر من الريبة، عن حدود السماح أو الدفع الأمريكى لتركيا فى الذهاب إلى هذا الأمر، فهناك أصوات أمريكية عدة خرجت قبيل توقيع تلك الاتفاقات السالفة، تحرض الإدارة الأمريكية صراحة على مزيد من الانخراط والتدخل فى الشأن الليبى، حماية لمصالحها لكن بغرض رئيسى غير خاف هو قطع الطريق على موسكو من أن توجد، أو تتوغل بتثبيت أوضاع جديدة على الأرض، على نحو يشبه ما جرى فى سوريا. ففى مقال نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، بعنوان صريح ومباشر للكاتب الشهير «بين فيشمان» جاء نصه على النحو الآتى: «على الولايات المتحدة تخفيف حدة المغامرة الروسية فى ليبيا». وهو يدل على مضمونه وما خطه فيه الباحث الذى عمل ضمن طاقم «مجلس الأمن القومى» الأمريكى فى الفترة من 2009 إلى 2013، بما فى ذلك مديراً لشئون شمال أفريقيا والأردن. وبوضوح يمثل الباحث إحدى منصات الكشف المبكر الأمريكية التى أخرجت إلى العلن، مسألة الوجود العسكرى الروسى «غير الرسمى» و«غير المعلن» فى ليبيا، حيث نشر هذا المقال قبيل التحرك التركى الأخير بأسابيع (25 نوفمبر) الماضى. فهو يذكر فيه أن هناك روايتين بارزتين سلطتا الضوء على وجود مرتزقة من الروس على الجبهات الأمامية للحرب، وتأثيرهم على القتال على العاصمة الليبية. حيث تعد المرة الأولى بأنها جاءت فى تأكيد متحدث باسم (القيادة العسكرية الأمريكية فى أفريقيا/ أفريكوم) عن وجود «شركات عسكرية روسية خاصة» فى غرب ليبيا، حيث تنامت الشكوك الاستخباراتية منذ فترة حول وجود روسيا فى شرقى البلاد، بعيداً عن ساحات القتال ومعركة طرابلس تحديداً، لكن الباحث يشير إلى أن الرواية الثانية جاءت فى خطوة غير مألوفة، عندما ندد حوار أمريكى- ليبى بـ«محاولات روسيا لاستغلال الصراع ضد إرادة الشعب الليبى»، دون أن يكشف عن ممثلى طرفى الحوار من كلا الجانبين، لكن يستنتج من سياق المقال أن الأمر كان مع أطراف من «حكومة الوفاق» وممثلى طرابلس، وأنه جرى بطريقة استخباراتية.
الولايات المتحدة وجدت نفسها أخيراً، فى ظل التهديد الروسى المتنامى من وجهة نظرها، بترجيح الأخيرة لكفة ميزان القوى عبر توسيع نطاق وجودها على الحدود الجنوبية لحلف «الناتو»، ربما أمام خيارين عليها أن تختار فيما بينهما. إما أن تذعن الإدارة الأمريكية لنفوذ روسيا المنتشر، أو تطعن فيه وتعطله من خلال جمع الدول التى تشاطرها الرأى، لإعطاء دفعة أخيرة ومكثفة لحل سياسى فى ليبيا. ربما انخراط الولايات المتحدة فى ليبيا اقتصر سابقاً على قضية «مكافحة الإرهاب»، بل وازداد الهدف تحديداً بتنظيم «داعش»، حيث أسهمت (قوات الأفريكوم) بشكل كبير فى هزيمة التنظيم فى سرت عام 2016، من خلال شن ضربات جوية مركزة استهدفت عناصر تنظيم «القاعدة» التى ساعدت «داعش»، فضلاً عن الجماعات التابعة التى كانت حينها قد أعلنت مبايعتها وولاءها لمركز التنظيم فى الرقة. لكن واشنطن اليوم لديها رؤية أشمل إلى حد كبير؛ فهى ترى أن فكرة السماح بتدخل روسيا فى ليبيا، تتناقض مع استراتيجية الأمن القومى لإدارة ترامب، واستراتيجية الدفاع الوطنى، واستراتيجية مجلس الأمن القومى لأفريقيا، حيث تركز جميعها على التنافس بين القوى العظمى ومواجهة النفوذ الروسى والصينى. فليبيا فى وضعها الراهن بمثابة حقل تجارب لهذه الاستراتيجيات جميعها، ففى حال تمكنت روسيا من جعل كفة الصراع تميل لصالح الجيش الوطنى الليبى، فسيكون المشير خليفة حفتر حينها الأداة التى تجرد الغرب من نفوذه فى ليبيا.
هذه ربما هواجس أمريكية، أو يمكن اعتبارها دوافع كامنة وراء المتغيرات الجديدة، وقد تكون السبب الخفى وراء هذا التهور التركى المحسوب أو المدعوم، أيهما أقرب.