لا ينبغي أن نخشى التكنولوجيا ولا أن نثق بها أيضاً
نوح سميث
ما هي الطريقة المثلى للتفكير في التكنولوجيا الحديثة والمستقبلية؟ يبدو أن التوجهين الرئيسيين في هذا السياق ينحصران بين التفاؤل المفرط والتشاؤم المفرط أيضاً. لذا قد يكون التخطيط والإدارة بحرص نهجاً أفضل.
يميل المتفائلون إلى توضيح أن التكنولوجيا هي أكبر قوة لتحقيق رخاء ورفاهية الإنسان في تاريخ الجنس البشري؛ وهم محقون في ذلك؛ فقبل الثورة الصناعية، كانت مجتمعات مثل الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول الميلادي، أو الصين إبّان حكم أسرة سونغ في عام ألف ميلاديا، هي الأكثر ثراء في ذلك الوقت، لكن بعد اكتشاف الوقود الحفري، والمحرك البخاري، والكهرباء، وغيرها من الوسائل التكنولوجية الحديثة، ازداد الرخاء في الدول المتقدمة إلى حد فاق كل تصور.
لم تبدأ الأرقام بعد في رواية القصة، فالفقر الذي عانى منه أسلافنا ومن مظاهره تفشي سوء التغذية، والأمراض، ونقص الغذاء، وعدم وجود صرف صحي، وسوء ظروف المعيشة والسكن، في الواقع لم يعد متصوراً أو مفهوماً بالنسبة إلينا اليوم. لقد بدا الوضع لمدة طويلة من الزمن وكأن القوى الاستعمارية الثرية تستأثر بالرخاء الذي وفرته الحياة العصرية، في حين تنتشر مزايا التكنولوجيا الحديثة، وتمتد سريعاً في أرجاء العالم المتقدم. وقام الموقع الإلكتروني «أور ووربد إن داتا»، الذي دشنه ماكس روزر، أستاذ الاقتصاد في جامعة أكسفورد، بعمل ترتيب زمني لهذا النهج الباعث على السعادة.
لقد تراجع معدل الفقر المدقع على مستوى العالم، الذي يتمثل في عدد الأشخاص الذين يعيشون بدخل أقل من 1.90 دولار يومياً، بخطى سريعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وكان هذا التراجع على مستوى العالم، حيث شمل أيضاً الهند، وأفريقيا جنوب الصحراء.
لم نكن لنشهد هذه الزيادة المذهلة غير المسبوقة في رخاء البشر لولا التكنولوجيا. يوفر كل من الوقود الحفري، والطاقة النووية، والطاقة المتجددة مثل طاقة المياه، كمية من الطاقة لم يتمكن أسلافنا من الحصول عليها باستخدام القوة العضلية، أو حرق الأخشاب. كذلك ساهم كل من الطب الحديث، وتقنيات البناء، وطرق الزراعة، ووسائل النقل، في بناء عالم تحول فيه المرض، والجوع، والتعرض للعناصر الخارجية من واقع يومي معاش إلى حالات نادرة. لذا إذا ما كان لأي منا الاختيار، لما اختار العودة إلى نمط حياة البشر عام 1817.
لذلك فإن المتفائلين على صواب فيما يتعلق بالوعد الذي تقدمه التكنولوجيا، لكن يشير المتشائمون إلى عدة نقاط مهمة أيضاً. لا تمنح التكنولوجيا البشر القدرة على القيام بالمزيد من الأمور فحسب، بل تحدث آثار جانبية يطلق عليها خبراء وعلماء الاقتصاد «الآثار الخارجية»، وأخطرها الحروب والتلوث. تراجع حجم المخزون النووي عنه منذ ثلاثة عقود، لكن لا يزال هناك أكثر من 15 ألف سلاح نووي في العالم اليوم، ويزداد عدد الدول القادرة على تصنيع سلاح نووي. ربما تكون أسلحة المستقبل، مثل الفيروسات المصنعة باستخدام الهندسة الوراثية، أكثر فتكاً، وتصنيعها أسهل. وأوضحت هجمات إرهابية وقعت مؤخراً أن السيارات والأسلحة النارية، التي تضع قوة دمار زهيدة الثمن في أيدي العامة، سوف تؤدي حتماً إلى انتشار الدمار والفناء. ومن المؤكد أن أسلحة المستقبل سوف تكون أقل ثمناً وأقوى.
على الجانب الآخر، يلوح التغير المناخي في الأفق كخطر يهدد رخاء العالم؛ فرغم تزايد استخدام الطاقة المتجددة سريعاً، لا يزال الوقود الأحفوري هو المصدر الرئيسي للطاقة بالنسبة للبشر، ولا تزال مستويات انبعاثات الكربون على مستوى العالم مرتفعة. إذا لم يتم اتخاذ المزيد من الخطوات للابتعاد عن استخدام الوقود الأحفوري، قد لا يمتد الرخاء غير المسبوق، الذي بدأ في القرن التاسع عشر، إلى ما بعد القرن الواحد والعشرين. كذلك هناك أسباب أخرى تدعو إلى التشاؤم من التكنولوجيا؛ فكثيراً ما يكون للوسائل التكنولوجية الحديثة عواقب غير مقصودة؛ فالهواتف الجوالة تثري حياتنا من عدة أوجه، لكنها أيضاً تزيد معدل إصابتنا بالاكتئاب والقلق. ورغم فيضان المعلومات المفيدة، الذي تحدثه وسائل الإعلام الحديثة، تنثر في الوقت ذاته بذور الفوضى والفتنة والفرقة الاجتماعية. يمكن أن تزيد المواد الكيميائية المستخدمة على نطاق واسع من معدل الإصابة بالسرطان. في أغلب الحالات لا تفوق مزايا الاختراع الجديد الآثار السلبية التي يحملها معه، لكن من الصعب معرفة ذلك. التكنولوجيا خطيرة بطبيعتها لأنه من الصعب القيام بتحليل يحدد التكلفة في مقابل المزايا والفوائد إلى أن تصبح تلك التكنولوجيا واسعة الانتشار.
لذا يقدم كل من الفريقين حجته. مع ذلك يبدو من الواضح أن التفاؤل والتشاؤم كليهما يؤدي إلى تفاقم الخطأ. لن يحسن التهليل لظهور التكنولوجيا الحديثة والاحتفاء بها، ولا أيضاً الشعور بالبؤس نتيجة ذلك، الوضع. يميل المتفائلون إلى تجاهل حقيقة أن ما حققته التكنولوجيا من نجاح في الماضي تطلب الكثير من التغييرات الاجتماعية حتى تنتشر المزايا، فقد طبقت دول مثل الصين في عهد ماو تسي تونغ، وكوريا الشمالية، أنظمة اقتصادية فاسدة حرمت أكثر المواطنين من مزايا التكنولوجيا الحديثة، ولم تبدأ الدول الفقيرة حقاً في مكافحة الفقر إلا بعد انتهاء عقود من الاستعمار.
على الجانب الآخر كثيراً ما يفترض المتشائمون إمكانية عرقلة ومنع الوسائل التكنولوجية الحديثة بالإرادة الشعبية، لكن هذا غير ممكن؛ فحتى الأنظمة الأكثر فقراً وقمعاً في القرن العشرين تتبنى التكنولوجيا الحديثة، وكثيراً ما تعاني من أسوأ عواقبها. مع ذلك يمكن منع البحث العلمي والاختراع، في دولة أو أخرى، لكن لن يصبح ذلك على مستوى العالم، فشخص ما في مكان ما سوف يدرس حتى أكثر الأفكار إرهابا.
لذا قد يكون النهج الأفضل هو إدارة التكنولوجيا والتحكم فيها. ينبغي أن نكون واقعيين قدر الإمكان فيما يتعلق بالمزايا والمخاطر المحتملة للابتكار. وبدلا من التفكير في كيفية قمع الوسائل التكنولوجية الحديثة، ينبغي علينا التفكير في كيفية تنظيمها، وتوجيهها نحو تحقيق مزايا وفوائد اجتماعية أوسع نطاقاً. الوسائل التكنولوجية الناشئة مثل الهندسة الوراثية، والذكاء الاصطناعي على الأبواب، ولا يمكن إعادة الجني إلى المصباح مرة أخرى، لكن سوف يؤدي تركها تتطور وتسير بشكل خطير إلى أخطار هائلة. لذا عوضاً عن ذلك على الحكومة والصناعة تمويل المحاولات الفاعلة الإيجابية لتنظيمها ونشرها على نطاق واسع. في النهاية ما التكنولوجيا سوى نتاج اختيارنا لكيفية استخدامها.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
……………………….
الشرق الأوسط