لا انتخابات مع الميليشيات
سالم العوكلي
القوى السياسية التابعة لميليشيات عراقية مسلحة ترفض نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة جُملة وتفصيلاً، رغم أن كل المراقبين أشادوا بنزاهة هذه الانتخابات.
هذا ما يخيف في سيناريو المستقبل الليبي المرتبط بانتخابات 24 ديسمبر، خصوصاً أن الملف الليبي بدأ يطّرد في تشابهه بالملف العراقي، والحديث عن الديمقراطية، أو الدولة المدنية، أو الانتخابات، في دولة، أو شبه دولة، تتحكم في مراكز قرارها الميليشيات المسلحة، يبدو فارغاً من المعنى، وهي ميليشيات، أساساً، تحتفظ بسلاحها الخارج عن القانون لمثل هذا الظرف الذي تخسر فيه أذرعها السياسية بالانتخابات، فطبيعة الميليشيات، متى وأينما كانت، أن تكون ممثلة في السلطات العليا كي تحافظ على مطامعها ونفوذها، وإلا فتذخير السلاح ورفض نتائج الانتخابات هو خيارها البديل.
ولا ننسى أن هذا ما حدث في ليبيا منذ أن خسرت الأذرع السياسية للميليشيات الواقعة تحت تسمية الإسلام السياسي أو العصبية الجهوية، فأعلنت الحرب بعد أن نأت السلطة المنتخبة عن مراكز نفوذها إلى طبرق في أقصى الشرق.
أذرع الميليشيات السياسية في ليبيا كانت تعرف مسبقاً أنها ستخسر الانتخابات، كما خسرتها في أول انتخابات أفرزت المؤتمر الوطني، لكنها تدرك وقتها إذا ما كان مقر السلطة المنتخبة في نطاق نفوذها لن تمس مصالحها، وستسيطر عليه بطرق مختلفة عبر الوعد الذي يخدمه مالها السياسي، أو الوعيد الذي ينفذه سلاحها، وهذا ما حدث مع المؤتمر الوطني، وما كان من المفترض أن يحدث مع مجلس النواب حين يكون مقره في بنغازي فترة سيطرة الميليشيات عليها، قوة درع ليبيا وأنصار الشريعة وأخواتها، وفي هذه الحالة معظم المقاعد مضمونة الولاء للقوى السياسية الخاسرة عن طريق شراء الذمم أو التهديد بالسلاح والتوابيت.
الآن يؤجل المجتمع الدولي والداخل الليبي المعجزة الليبية لانتخابات 24 ديسمبر التي حددها آخر اتفاق سياسي للجنة الحوار الليبي، والتي أفرزت قائمة سلطات، مجلس رئاسي وحكومة وطنية مهمتها أن تجعل البيئة الليبية خلال هذه الفترة مناسبة لانتخابات رئاسية ونيابية، حرة ونزيهة، والأهم من ذلك صالحة لتقبل نتائجها من كل الأطراف، ولكي يتحقق ذلك كانت المهمة الأساسية لهذه السلطات إخراج المرتزقة والقوة الأجنبية وتفكيك الميليشيات، تفكيكها وليس إدماجها الوهمي، وهي مهمة صعبة على أي حال لكنها ممكنة التحقيق بدعم قوي من المجتمع الدولي، لأن الميليشيات بجناحيها السياسي والعسكري، التي يعتمد وجودها في المشهد على السلاح فقط، ستخرج من “المولد” بلا أي مقعد لو جرت الانتخابات كما يرجى لها، وهذا ما لن تسمح به طالما في بنادقها ذخيرة.
الميليشيات والانتخابات لا يمكن أن يتواجدا في المكان نفسه والزمن نفسه، وهي الثنائية المستحيلة التي أوصلت دولاً أخرى إلى طرق مسدودة وأجهضت مساراتها السياسية ووضعتها على حافة الإفلاس، ما بالك أن الجماعات المسلحة لدينا لا ترقى حتى إلى مستوى تسمية الميليشيات كما في تلك الدول (لبنان مثلا)، وهي مجرد عصابات ومرتزقة تقتات على الفوضى الليبية وضعف الدولة المركزية، وتتقاسم ــ كما عصابات المخدرات في بعض دول أمريكيا اللاتينية ــ أحياء العاصمة أو بعض المدن الأخرى.
لكي تكون أي مبادرة جادة، ولنكون واقعيين، علينا أن نُسلّم أن طرابلس تحكمها الميليشيات المتحكمة في كل شيء بغض النظر عن تسميات الهياكل الرسمية التي نراها في لافتات المقرات، لكنها لا تغير من هذا الواقع شيئاً، وأنا هنا لا أتحدث عن طرابلس كمدينة في الغرب الليبي، ولكن عن عاصمة في قلب البلد، وكل ما يحدث فيها ينعكس على البلد برمته، وعافيتها من عافية هذا الوطن. ولا يمكن لأي مسار اجتماعي يعِد بالمصالحة أن ينجح في وجود الميليشيات، ولا يمكن لأي مسار سياسي يعِد بالانتخابات أن ينجح في وجودها، ولا يمكن لأي مسار اقتصادي يعِد برفاه المواطن أن يتقدم مع وجود اقتصاد موازٍ تتحكم فيه الميليشيات. وهذا ما تخبرنا به تجارب دول كثيرة نتابع أخبارها يومياً على الشاشة.
لذلك كانت أهم مهام حكومة السراج الترتيبات الأمنية وتفكيك الميليشيات والتي فشلت فيها تماماً، بل إن الميليشيات ازدادت قوة في ظل هذه السلطة بعد أن شرعنتها وموّلتها ووقّعت اتفاقيات أمنية مع قوى خارجية لحمايتها، وأطلقت عليها توصيفات لا تعكس طبيعتها كعصابات خارجة عن القانون.
ولذلك كانت أولوية مهام الحكومة الجديدة التي مازالت فاشلة فيها قبل نهاية ولايتها بشهرين تقريباً.
من جانب آخر لا أتصور انتخابات ديمقراطية في دولة عاصمتها تحضن أشرس أنواع المعتقلات التي تمارس فيها كل الجرائم الإنسانية ضد المهاجرين، وقد نُفذت أفلام وثائقية عديدة تابعتها في قنوات فضائية مختلفة تعكس هذه الجرائم التي استمرت وتطورت في ظل كل السلطات المتعاقبة في طرابلس، وكأن الأمر بالنسبة لها تحصيل حاصل، أو كأنها تعود لسنين تجارة الرقيق في القرن التاسع عشر قبل أن تمنعها قوانين دولية، وهي جرائم يندى لها الجبين تجعلنا جميعاً نحسّ بالإهانة حين يصل الناجون منها إلى أوروبا ويتحدثون عما حصل لهم في معتقلات طرابلس. طرابلس المدينة الجميلة والحاضرة العريقة الرقيقة من المفترض أن لا يُقرن اسمها بهذه الجرائم التي تحدث للأسف فيها عبر عصابات مارقة تقاسمت أحياءها والنفوذ فيها، وأناسها الراقون لا يستطيعون فعل شيء أمام سلوك العصابات المخجل.
في هكذا مناخ مُلوث، وحين تكون العاصمة مختطفة من الوطن، يصعب التفكير في أي مسار لبناء دولة معافاة، ويصعب التفكير في إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وحتى إن حصلت بمعجزة يصعب التفكير في قبول نتائجها من قبل الأذرع السياسية للميليشيات إن خسرتها، لأن ردة فعلها ستكون مثل ميليشيات العراق التي ترفض الآن نتائج الانتخابات، وستعمل كما فعلت سابقاً بعد انتخابات مجلس النواب على تفجير الوضع وإعادته للمربع الأول، والتمديد للسلطات الحالية الخاضعة لها، وتحويل الملف الليبي من جديد لمؤتمرات أخرى تجوب مدن العالم، وهي المؤتمرات التي يعرف مهندسوها أنه طالما العاصمة في قبضة الميليشيات لن يتحقق أي مسار يكتبونه على الورق، لكنهم لا يفعلون شيئاً حيال ذلك وكأنهم يُبرّئون ذممهم ويحيلون كل مرة وفي كل إحاطة الإخفاق إلى أطراف داخلية، ويهددون بالعقوبات كل معرقل للمسارات التي يرسمونها عبر مجلس الأمن الذي استمرت جلساته لعشر سنين بخصوص ليبيا تجتر تقريباً نفس الإحاطات ونفس الكلام، وكأن كل إحاطة نسخ ولصق من السابقة لها.