مقالات مختارة

كي تكون التسوية في ليبيا ممكنة

محمد بدر الدين زايد

أخيراً وبعد ضغوط، قام مجلس النواب الليبي بالتصويت بالغالبية على قبول خطة الأمم المتحدة لتعديل اتفاق الصخيرات، وذلك بعد فشل الجولة الأولى التي رعاها المبعوث الدولي غسان سلامة في تونس منذ نحو شهر. وأشارت مصادر إعلامية إلى أن الخطة تشمل ما يمكن وصفه بإطار دستوري، لتحديد شكل السلطة التنفيذية في كل من مجلس رئاسة الدولة ومجلس الوزراء؛ وتتضمن 12 مادة في شأن تشكيل المجلس الرئاسي واختصاصاته وشروط اختيار أعضائه وأعضاء الحكومة. كما تتضمن حدود العلاقة بين السلطة التنفيذية ومجلس النواب، وغير ذلك من عناصر يمكن وصفها بأنها تشكل في مجملها عناصر إطار دستوري موقت قد يحتاج تقييمه إلى خبراء القانون الدستوري. وربما كان البعد السياسي الرئيس الذي يجب التوقف عنده هنا هو كيفية اختيار أعضاء المجلس الرئاسي، حيث يكون ذلك باختيار مجموعة مؤلفة من أعضاء من مجلس النواب المنتخبين في 25 حزيران (يونيو) 2014 وعشرة آخرين من أعضاء المجلس الأعلى للدولة المنتخبين في 7 تموز (يوليو) 2012 بتزكية كل قائمة.

وهنا نعود إلى الإشكالية التي تعاني منها جهود التسوية الأممية، والتي تعرضتُ لها في مقالات سابقة، ومفتاح ذلك هو الرجوع إلى مسار الأزمة الليبية منذ انتخابات عام 2012، والتي فاز فيها التيار المدني الليبي بغالبية مكّنته مِن تشكيل الحكومة. ومن المفيد الأخذ في الاعتبار أن التيار المدني في ليبيا لا يعني التيار العلماني؛ وإنما الأدق أنه كل مَن يرفض استخدام الدين واستغلاله في العملية السياسية. ومن ثم؛ يضم هذا التيار الغالبية الساحقة مِن الشعب، وبدلاً مِن أن تحترم الأقلية مِن جانب عناصر الإسلام السياسي، وجدنا الأخيرة؛ استناداً إلى الدعم الخارجي، لجأت إلى كل أشكال التجاوزات واختطاف هذا المجلس، وإرهاب أعضائه والحكومة المنبثقة مِنه. وهو ما انتهى إلى هرب كثير من أعضاء المجلس من طرابلس العاصمة، ثم تركزت جهود هذه الجماعات المتشددة على إقالة رئيس الحكومة المعتدل علي زيدان، لكنها باءت بالفشل غير مرة، حتى تمكنت بمسرحية هزلية من تحقيق هذا في جلسة غير قانونية. بالخداع أقيل علي زيدان، واضطر للهرب خارج البلاد، ولم يعد إلا منذ وقت قصير. وشكّلت العناصر المتطرفة التي سيطرت على المجلس بعد هرب وانسحاب غالبية الأعضاء، حكومة كان من الصعب أن يعترف بها المجتمع الدولي. في ضوء ذلك، عقدت الانتخابات البرلمانية الثانية في حزيران (يونيو) 2014 وأسفرت عن الهزيمة الساحقة مرة أخرى للتيارات المتشددة، ولجوء مجلس النواب المنتخب إلى مدينة طبرق البعيدة من سيطرة الميليشيات المتشددة نسبياً.

وهنا جاء برناردينو ليون؛ مبعوث الأمم المتحدة السابق بأكبر مغالطة ممكنة؛ أساسها يبدو مثالياً؛ وهو احتواء أطراف اللعبة السياسية– وفي شكل محدد ضم عناصر الإسلام السياسي إلى الحكم، بادعاء أن هذا سيؤدي إلى اعتدالها، متجاهلاً الكثير من الحقائق. منها ثبوت وجود علاقات عضوية بين غالبية عناصر الإسلام السياسي في ليبيا من «الإخوان المسلمين»؛ حتى «داعش»، وثانيها أن هذه الميليشيات لم تتخل عن سلاحها ولا إرهابها المنظم، كما أن نظرية ضم التطرف إلى الحكم بغية تحويله إلى الاعتدال؛ لم تثبت صحتها قط.

وعموماً؛ أدت هذه الرؤية المختلة إلى عدم التجاوب من جانب مجلس النواب الشرعي وأطراف سياسية وقبَلية مع تسوية الصخيرات، ما فتح الباب مجدداً لاستمرار الصراع وتعثر عملية التسوية. وزاد الأمر صعوبة بوجود ثلاث حكومات وليس حكومتين، واحدة تمثل مجلس النواب المنتخب، وثانيه تمثل العناصر المتشددة للمجلس الأعلى للدولة؛ أي برلمان 2012، ولا يعترف به أحد في العالم رسمياً؛ إلا أنه يتلقى في الخفاء دعماً من تركيا وقطر، ثم حكومة المجلس الرئاسي الذي يرأسه فايز السراج، المفروض أنه معترف به دولياً؛ كونه يمثل اتفاق الصخيرات. والواقع أن الإشكال في الموافقة الأخيرة لمجلس النواب الليبي على التعديلات المقترحة، يشير إلى أنه يساوي مرة أخرى بين المجلس الشرعي؛ أي مجلس النواب وبين مجلس 2012 الذي لا يمثل شرعية وليس واضحاً من سيمثله تحديداً: هل سيكون العشرة ممثلين له من العناصر المتشددة وحدها أم سيضم بعض عناصر التيار المدني، فضلاً عن أن هذا الحل لا يجيب عن السؤال حول وزن هذه العناصر الحقيقي في الشارع الليبي، كما لم تشر البنود التي نشرت إلى ماهية الترتيبات المحددة في شأن كيفية التعامل مع الميليشيات المسلحة ولا السلاح غير الشرعي في البلاد. وهنا نلاحظ أن ما تسرّب في السابق؛ كان يدور حول أن المشكلة الرئيسة هي طبيعة العلاقة بين المشير حفتر وفايز السراج، ومع وضوح اختصاصات المجلس الرئاسي الجديد في ما يتعلق بقائد الجيش، فإن السؤال هو كيف ستكون العلاقة مع حفتر، الذي يثير حالة من الخلاف في الساحة الليبية مع رفض عناصر الإسلام السياسي دوره ومعها بعض أصوات التيار المدني ولكن تؤيده نسبة كبيرة ولا يستهان بها من التيار المدني والقبائل.

لا أظن أن أي تسوية ستصمد إن لم تعالج التحدي الأخطر بالنسبة للشعب الليبي والذي يتجاوز خطره ليبيا إلى دول الجوار، ودليل هذا ما كشفته حادثة الواحات الأخيرة في مصر، ثم حادثة بئر العبد في سيناء، كما أن تداعيات فوضى السلاح والأمن حاضرة أيضاً في قضية أو فضيحة بيع العبيد الأخيرة والتي ما زالت فصولها مستمرة.

ليست القضية المحورية في ليبيا هي الترتيبات الدستورية للحكم وإنما هي فوضى الميليشيات المسلحة وتحدي الأمن. من هنا فشلت الجهود السابقة، ولكي تنجح أي جهود جديدة؛ يجب أن تركز عملها على معالجة معاناة الشعب الليبي وجيرانه والتوقف عن تحويل ليبيا إلى معمل لاختبار مقولات ونظريات حول الإسلام السياسي وتوظيف الدين في السياسة في المنطقة. لا أعرف غسان سلامة شخصياً ولكني قرأت بعض ما كتبه، وأنا على دراية بخلفيته وقدراته وأتمنى أن يتجاوز إرث برناردينو ليون الملتبس وأن تؤدي هذه الجهود إلى تخفيف ولو تدريجاً لمعاناة الشعب الليبى وجيرانه؛ وهو أمر شرطُه الضروري هو مخاطبة الأسباب الرئيسة للأزمة، وذلك ما لم حدث في شكلٍ كافٍ حتى الآن.

………………..

الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى