كينيا… ديمقراطية أفريقيا العاصفة
عبد الرحمن شلقم
الانتخابات الرئاسية في كينيا، موسم الجلوس أمام مرآة قارة أفريقيا… تزول الحدود بين البشر والأنهار والأدغال… تتداخل العقول مع نتوءات الأنسجة الاجتماعية. الأحزاب السياسية يخترقها لون القبائل، ويطفو فوق برامجها فحيح التاريخ.
بلد يختزل قارة أفريقيا، مساحة اللغز الغامق… الثروة فيها جنين يلدُ قبل أن يُولد، لكن مفتاحها السحري تتداوله أياد تتعدد أطياف لونها؛ الأوروبي الأبيض، والآسيوي الأسمر، وبينهما الأفريقي الذي يركض بين حلقات الحاجة والجهد والكدح الذي لا يبالي بكمية العرق؛ ذاك النهر السحري الذي ينبع من جسد الإنسان.
للانتخابات الرئاسية في جمهورية كينيا، دراما الصوت والدم؛ صوت التاريخ ودم الصراع على السلطة. تداول الكرسي الأول بين أوائل من أوائل. القبيلة هي أوراق الناخبين وصندوق المُنتخَبين، الحزب السياسي هو الستارة التي تغطي وجه الناخب وهو يضع ورقته منفرداً في صندوق الصراع. لكن القبيلة هي الحروف التي تكتب اسم الزعيم المأمول. في كل شيء كيني بعض من أفريقيا… الأنهار، الأدغال، البحيرات، الحيوانات، المناخ، التاريخ، البنية الاجتماعية من قبائل وأديان ووافدين. وفي كل شيء أفريقي بعض من كينيا… الثروة الكبيرة التي تغوص في أعماق الأرض، والفقر الذي يطفو فوقها… المواطن البسيط المتسامح الذي لا يبتسم، ولكن يقهقه… الانفتاح الاجتماعي وقبول الآخر.
الرئيس الأول لكينيا المستقلة جومو كنياتا، الرجل الذي وُلد في بيئة فقيرة وترعرع مثل أي طفل كيني بسيط، قاد معركة الوطن من أجل الاستقلال. أسس «حزب الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني». كثير من الأحزاب في الدول الأفريقية التي تأسست بعد الاستقلال أضافت إلى أسمائها كلمة «الأفريقي» تعبيراً عن الهوية القارية وتأكيداً على خلع ثوب التبعية للمستعمر الأوروبي.
الحزب الواحد الحاكم كان الأداة السياسية التي حكمت أغلب الدول الأفريقية بعد الاستقلال الذي عمَّ أفريقيا منذ مطلع ستينات القرن الماضي. لم تنعم القارة بثمار استقلالها طويلاً؛ حيث ضرب كثير من دولها فيروس الانقلابات العسكرية. كينيا كانت من الدول القليلة التي نجت منه.
بين قوة الحزب الواحد الذي يحكم قبضته على الدولة ومفاصلها وانقلابات الجيوش، برز نتوء سياسي فريد في القارة وهو «الزعيم الأب». جومو كنياتا كان أحدهم، بقبعته المزركشة ومدبة الذباب التي لا تفارق يده، ولحيته البيضاء منحته سمت الكبير الحكيم. مارس دور الأب الوطني الذي يربط كل مكونات الوطن. كنياتا، ينحدر من قبيلة الكيكويو؛ وهي أكبر القبائل تعداداً في كينيا، ساعده ذلك في ترسيخ قوته السياسية. تولى بعده نائبه دانيال أراب موي، وهو من قبيلة كالنجين… استمر في الحكم 24 سنة. قاد البلاد بقوة حديدية وبحزبه الواحد. في 1991 وبضغوط داخلية وخارجية وافق أراب موي على إجراء انتخابات تعددية وشارك في الانتخابات حزب «كانو» بزعامة الرئيس موي، وكذلك حزب «فورد كينيا» بقيادة جارا موغي أودينغا والد رايلا أودينغا المنافس في الانتخابات الأخيرة للرئيس راهو كنياتا، فاز في تلك الانتخابات الرئيس دانيال أراب موي. في انتخابات 2007 تنافس كيباكي وأودينغا. حامت شكوك كبيرة حول نزاهة الانتخابات؛ حيث تأخر إعلان النتيجة، وبعدما ساد اعتقاد بين غالبية السكان بحقيقة التزوير، تم إعلان فوز كيباكي. اندلعت مظاهرات غاضبة تسببت في قتل المئات، تدخلت أطراف أفريقية ودولية؛ وعلى رأسها كوفي أنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة. كانت التسوية السياسية أن يتولى أودينغا رئاسة مجلس الوزراء مع كيباكي رئيس الجمهورية.
التجربة الديمقراطية في أفريقيا، رحلة يحدوها الدم، ويطفو فوق جلدها شوك القبيلة، تتدافع حولها كتل من جموع ما زالت مسكونة بحالة من التيه العنيف التي أعقبت غياب الأب الذي ولد بين يديه الوطن. هل كان الرئيس الكيني الراحل جومو كنياتا مؤسس الدولة فعلاً أباً للوطن؟ نستطيع أن نجيب بـ:«نعم، ولكن». كان الأب في حياته، غير أنه لم يورّث للأجيال منظومة قيم للتعايش والتداول الديمقراطي السلمي على السلطة. في كل موسم انتخابي في كينيا يطفو لون الدم مع أمواج الغضب الشعبي الواسع ويتكرر عنوان ذلك الغضب؛ أي «التزوير».
نقف عند حالتين متميزين في أفريقيا؛ الأولى في شرقها والثانية في غربها… هما: حالة تنزانيا في الشرق، وحالة السنغال في الغرب. نجح الرئيس الراحل جوليوس نيريري في توحيد تانجانيقا وزنجبار، مزج نيريري اسمي القطرين ليكونا اسماً للمولود الجديد. لم تخلُ عملية التوحيد من العنف الدموي، لكنه استطاع بحكمة إعجازية أن يؤسس لدولة موحدة يسودها التعايش والتسامح. أطلق عليه التنزانيون اسم «المعلم»، وهي كلمة عربية في اللغة السياحيلية التي تشترك فيها العربية مع لغة ألبانتو، وهي الرسمية في كل من تنزانيا وكينيا. «نيريري المعلم»، كان الأب ولا يزال لتنزانيا. أسس منظومة قيم شاملة تعايش فيها الشعب، وجنبت البلاد فيروس الانقلابات العسكرية، وترسخ مبدأ التداول السلمي على السلطة. رئاسة الدولة بالتناوب بين المسلمين والمسيحيين، وعندما يكون الرئيس من هذا الدين يكون النائب من الآخر.
نستطيع القول اليوم إن جوليوس نيريري هو الأب الغائب الحاضر الذي يحدو خطوات تنزانيا السلمية الهادئة. الأب الآخر في غرب القارة، وتحديدا في جمهورية السنغال هو ليوبولد سيدار سنغور. رجل من جيل المؤسسين الكبار في القارة الأفريقية، قاد بلاده إلى الاستقلال بجحفل من ثقافته وعقله، ترأس؛ وهو المسيحي، بلاداً غالبيتها الساحقة من المسلمين السنّة المالكيين. كان يجل رجال الدين المسلمين إلى حد التقديس؛ يشاورهم ويقربهم إليه، يعامل الجميع في إهاب الأب الذي لا يفرق بين أولاده. سنغور قامة في الأدب والفكر العالمي، وحاز عضوية الأكاديمية الفرنسية التي لا ينال شرف الانضمام إليها إلا قلة من عظماء عصرهم.
حصَّن بلاده من الانقلابات العسكرية، ونجح في صناعة جيل من الشباب المسلح بالوعي الوطني والتسامح والتعايش. صاغ من إبداعه الشعري وأدبه المتنوع هوية «زنجية» رفعت قيمة الإنسان الأفريقي الأسود أمام المستعمر الأوروبي. جعل من التراث الأفريقي ملاذاً يهرع إليه الأفريقي نحو ذاته فراراً من القهر الاستعماري والتهميش الأبيض.
ليوبولد سنغور كوّن مع أدباء الكاريبي؛ إيمي سيزار وليون داماس وروسان كامي وجان بيير ورينيه ماران، الصف الأول من الأدباء الزنوج الذين استخدموا الشعر والرواية سلاحاً مضاداً أشهروه في وجه الاستعمار الأوروبي. صاغوا نظرية «الزنوجة» التي خلَّقت هوية تربط النسيج الاجتماعي، وأضاف سنغور لها البعد العربي البربري الذي يربط أبناء القارة الأفريقية. نجحت أبوّته في تأسيس دولة عصرية تتداول السلطة فيها سلمياً، ونجت من طوفان الانقلابات العسكرية التي عصفت بكثير من الدول الأفريقية ردحاً من الزمن. هل الأب هو القدر المنقذ للقارة الأفريقية؟