كيف تحوّل مسقط رأسي إلى طريق تهريب أساسي في ليبيا
مصطفى الفيتوري
لقي نحو ثلاثين مهاجراً غير شرعي مصرعهم عندما انقلبت، في 14 شباط/فبراير، شاحنة الـ”بيك آب” التي كانوا يتكدّسون داخلها، جنوب شرق بلدة بني وليد، مسقط رأسي. كانت الشاحنة تقلّ، بحسب التقديرات، 150 مهاجراً أصيب معظمهم بجروح خطيرة أو طفيفة، ونقلهم متطوّعون ومسعفون طبّيون إلى المستشفى الحكومي الوحيد في البلدة. في حين أنه من الصعب التثبّت مما حدث، أُفيدَ أن الضحايا هم في غالبيتهم من بلدان مثل إريتريا والصومال والسودان. لسوء الحظ، هذه ليست المرّة الأولى التي يلقى فيها مهاجرون مصرعهم في طريقهم إلى الساحل الليبي على البحر المتوسط، حيث يُنظّم المهرّبون رحلات بحرية إلى جنوب أوروبا، لا سيما إيطاليا. ولن تكون المرّة الأخيرة.
خلال العامَين المنصرمَين، تحوّلت بني وليد – التي تقع على بعد نحو 180 كلم (111 ميلاً) جنوب غرب طرابلس – إلى إحدى الطرقات المفضّلة لدى مهرّبي البشر. كما في معظم المدن الليبية، تغيب عن البلدة الإجراءات الأمنية المناسبة، ولا تمتلك أيٌّ من الحكومتَين الليبيتين سيطرة حقيقية، فما بالكم بالقدرة على فرض الأمن. ليست مكافحة الهجرة غير الشرعية أولويةً في ليبيا منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011.
لقد صُدِمتُ عندما رأيت أن قريتي الصغيرة، الرزقة، الواقعة في أقصى الطرف الغربي لبني وليد، تحوّلت إلى طريق فرعي لشاحنات المهرّبين. أول مرة رأيت فيها شاحنة مماثلة، كانت مكتظّة بنحو ثلاثين شخصاً – معظمهم من الأفارقة – وتعبر الطريق غير المعبَّد الذي يجتاز القرية من جنوبها إلى شمالها. كانت إحدى الأمسيات في أيلول/سبتمبر 2017، وكنت أزور بعض الأصدقاء، عندما مرّت الشاحنة مسرعةً إلى حد ما. سألت صديقاً عنها، فكان جوابه: “إنها شاحنة تهريب متّجهة إلى طرابلس”.
وعندما سألت صديقي إذا كان أيٌّ من أبناء القرية متورّطاً بالتهريب، أجاب: “بالطبع. إنها من الوظائف القليلة المتاحة للشباب هنا”.
أصبحت قريتي الهانئة الصغيرة الطريق المفضّل لدى المهرّبين بسبب موقعها؛ فهي تربط بين جنوب بني وليد والطريق السريع المتّجه شمالاً نحو العاصمة طرابلس، بعيداً من المراكز السكنية المكتظّة في البلدة. فعبور القرية يتيح تجنُّب نقاط التفتيش الأمنية التي تُقيمها الميليشيات المحلية عشوائياً وفي أماكن متفرّقة بين الفينة والأخرى. يقدّم الطريق بديلاً آمناً عن الطرقات المعبّدة على مسافة بعيدة من الطرف الشمالي لبلدة بني وليد، حيث لا تقيم الميليشيات عادةً نقاط تفتيش على الطرقات. عند الخروج من بني وليد ومتابعة السير باتجاه طرابلس، هناك طرقات كثيرة غير معبّدة تمرّ عبر الحقول والوديان، بعيداً من أي نقاط تفتيش أمنية محتملة.
لكن معظم السائقين لا يُكمِلون طريقهم وصولاً إلى طرابلس أو مدن ساحلية أخرى لتفريغ حمولتهم من المهاجرين، فهم يقومون بتنزيل الركّاب، مرّةً واحدة على الأقل، في نقطة معيّنة كي يتسلّمهم سائق آخر. هذه هي الممارسة المعتمدة منذ فترة. ينقل حسان، الذي أبدى رغبته في عدم الكشف عن اسمه كاملاً، المهاجرين منذ العام 2014 في حافلته الصغيرة التي تتّسع لثمانية مقاعد من محيط سرت مروراً ببني وليد باتجاه طرابلس.
يروي حسان: “أُقلّ عادةً المهاجرين إلى نقطة تقع على مقربة من ترهونة، شمال بني وليد، ثم أتركهم هناك حيث يُقلّهم سائق آخر إما باتجاه صبراتة وإما نحو محطات أخرى على الساحل”. سألته عن السبب، فكان ردّه: “هذه هي الترتيبات التي وضعناها، كي يتمكّن أشخاص متعدّدون من الاستفادة”. صبراتة وزوارة، ومؤخراً زليتن، هي نقاط الانطلاق الأشهر للمراكب والقوارب التي تقلّ المهاجرين بحراً إلى إيطاليا.
عادةً، تُقسَم الطريق بين سائقَين على الأقل، يُغطّي كلٌّ منهما قسماً منها داخل المنطقة التي يكون عارِفاً بطبيعتها الجغرافية. من المهم أن يكون السائق عالِماً بالأساليب التي تمكّنه من التخفّي وتجنّب نقاط التفتيش عند قارعة الطرقات، حيث تطلب الميليشيات أموالاً من أجل السماح للسيارات بالمرور. وإلا قد تعمد إلى مصادرة الشاحنة وربما نقل الركّاب إلى الحجز.
في غياب حكومة فاعلة أو قويّة منذ التدخّل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في العام 2011، أصبحت ليبيا اليوم طريدةً سهلة لمختلف أنواع الأنشطة الإجرامية – لا سيما تهريب البشر، وفي شكل خاص الأفارقة القادمين من البلدان الواقعة جنوب الصحراء، والذين يتوجّهون إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل. نظراً إلى الأعداد الكبيرة من المهاجرين الذين يريدون الذهاب إلى أوروبا، تحوّل التهريب إلى تجارة مزدهرة ورابحة تجذب المئات من الشباب الليبيين في بلدٍ يعاني من غياب الأمن ومن الحروب الصغيرة والمتقطّعة التي أدّت، في الأعوام السبعة الماضية، إلى القضاء على معظم الفرص الاقتصادية الأخرى. يجني السائق نحو 1500 دينار ليبي (حوالي 150 دولاراً أميركياً) عن كل رحلة، وهو مبلغ جيّد في ليبيا.
هذه المعطيات، إلى جانب ارتفاع معدّل البطالة، تقف خلف تورُّط أعداد كبيرة من الشبّان، لا سيما أولئك المقيمين خارج المدن الكبرى، في التهريب على الرغم من مخاطره. أعرف على الأقل شاباً واحداً من قريتي تمكّن، في أقل من عامَين، من بناء منزل وشراء سيّارة وحتى الزواج. كانت أسرته فقيرة وبالكاد كانت تؤمّن لقمة عيشها، لكن منذ انخراطه في التهريب، تبدّلت الأمور كثيراً بالنسبة إليه وإلى عائلته.
في بني وليد، تزداد أعداد الأشخاص الذين يتورّطون في التهريب، ما يولّد أيضاً منافسة. أحياناً تندلع شجارات عنيفة بين المجموعات المختلفة حول مَن يستطيع أن يعمل في هذا القطاع أو ذاك من الطريق. في نيسان/أبريل 2016، لقي ما لا يقل عن 16 مهاجراً مصرياً مصرعهم عندما نشب قتالٌ بين مجموعات تهريب مسلّحة للسيطرة على طريق التهريب بكامله.
في ظل النقص الشديد في الفرص الوظيفية، وغياب السيطرة المناسبة من الحكومة، ستستمر أعداد متزايدة من الشباب في الداخل الليبي، في التحوّل نحو التهريب كوظيفة ثابتة.