كلب مجهول قدم لي حمايته
عمر أبو القاسم الككلي
يمكن وصف علاقتي بالكلاب والقطط بالعادية. ففي السنوات السبع الأولى من طفولتي كان لدينا كلاب. لكن علاقتي بها كانت مثل علاقتي بأية شجرة أو حجر.
بين السابعة والثامنة من عمري انتقلنا إلى بلدتنا في ككلة بجبل نفوسة ونزلنا، مؤقتا، مع أسرة عمي الكبير. كان لديهم كلب يتميز بخاصية غريبة، وهي أنه يتعرف على أقرباء صاحبه من اللقاء الأول، فلا يهاجمهم. لكن علاقته بعمة لي كانت غريبة جدا. فرغم أنه يعرفها إلا أنه كان، لسبب يخصه، يكن نحوها عداء شديدا ويهاجمها بشراسة كلما انتبه إلى حضورها!
في ككلة، دخلت المدرسة متأخرا عن السن المعتادة حوالي سنتين. وكنت أقطع عدة كيلومترات إلى المدرسة عبر الجبل. كان المكان أجردَ ونادرا ما أصادف أحدا في الطريق. ذات مرة انتبهت إلى أن كلبا يتعقبني. امتلأت خوفا، خاصة وأن المسافة بيني وبينه تضيق باستمرار. أقف وألتفت إليه، فيتوقف هو الآخر أو يقعي ناظرا إلي. لم يظهر نحوي نوايا عدوانية. لكنني كنت خائفا. أخذت أتوجه إليه، في رجاء وضراعة وهدوء، طالبا منه الانصراف بصوت مرتعش:
– شِرْ.
لكنه يظل مثبتا عينيه في عينيَّ مدليا لسانه لاهثا، في نظرة مسالمة. وحين تقلصت المسافة بينن إلى حوالي متر صرت أخاطب نخوته:
– يا ودي شر، تربح! شِرْ، يهديك ربي!
عندما لم يستجب لضراعتي جلست أمامه منهمرا في بكاء واضح. عندها نهض وحاد عن المسرب الضيق الذي كنت أسلكه ليتجاوزني وهو يخب مُتبوِّلا، بين الفترة الأخرى، على النبتات المحاذية للمسرب، وذهب في حال سبيله.
بعد ذلك، بعدة سنين، قال لي صديق رويت له الحكاية، أن هذا الكلب لابد وأنه اشتم رائحة ذئاب في المكان، وكان قصده حمايتك. وفعلا، كانت تتواجد ذئاب بالمنطقة. ولاحقا علمت أن حركة التبول تعلن بعض الحيوانات من خلالها عن إقليمها. وبالتالي فإن هذا الكلب أعلن ( بعد أن رفضت أنا، لجهلي، حمايته المباشرة لي) المكان منطقة نفوذ، كي يوفر لي قدرا من الحماية غير المباشرة. فالإقليم ليس إقليمه، لأنه كان عابرا وليس مقيما، إلا أنه قام بـ “كذبته” هذه إكراما لي!
في حوالي العاشرة من عمري دخل المزرعة التي كنا نقيم بها جروة وقطيطة. كان واضحا أنهما تربتا في بيت واحد وأنهما متآلفتان. يبدو أن أصحابهما غادروا المكان ولم يأخذاهما معهم، فهامتا في المناطق القريبة.
أخذتهما وحاولت رعايتهما. كانتا صديقتين ومتحابتين فعلا بشكل لافت يتعارض مع علاقة العداء التقليدية بين القطط والكلاب. وهذ يؤكد القول الذي مؤداه أن القطط والكلاب التي تتربى في بيت واحد تنشأ بينها علاقات ألفة.
كانتا تتلاعبان وتتمازحان. لكن القطيطة أصيبت، بعد مدة، بنوع من الاكتئاب فأصبحت تقابل مداعبات رفيقتها وصديقتها بعصبية اضطرت الأخيرة إلى صرف النظر عن اللعب معها.
ثم ماتت القطيطة.
أخذت أعتني بالجروة وهي تشب. لكن شخصيتها انبنت، لسبب لا أدريه، على الخوف. فلم تكن من النوع الذي يمكن أن يعتمد عليه في الحراسة والحماية.
في فترة ما أصيبت بنوع من الهياج العصبي يجعلها تجري مهتاجة ضاربة رأسها بجذوع الأشجار. ثم اختفت.
بعد بضعة أشهر عادت. كانت شعثاء غبراء مهزولة وتبدو دائمة الشرود، فانكسرت ألفتي معها.
جار لنا كان يشتغل بمسلخ في تلك الناحية قال أنه كان يشاهدها تأتي إلى هناك وتشرب ما تيسر من دماء الذبائح وأن هذا، حسب رأيه، شفاها من مرضها الغامض.
بعد ذلك بعدة سنوات حكيت الواقعة لأحد أصدقائي فقال أن الكلاب، أو بعضها على الأقل، عندما تصاب بمرض يحتمل أن يشكل خطرا على أصحابها تهجر المكان. لست أدري، حتى الآن، إن كان هذا “الاعتقاد” صحيحا أم لا.