«كلاشنيكوف» كنفاني
سوسن الأبطح
«الموت ليس على الإطلاق قضية الميت، إنه قضية الباقين»، قال ذات يوم غسان كنفاني، ثم رحل، بعد أن تشظى جسده وصار فتاتاً بفعل الانفجار الذي استهدف سيارته في بيروت، قبل خمس وأربعين سنة من اليوم.
يومها كانت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير، أصدرت أمراً باغتياله سلّمته إلى الموساد. اسم كنفاني كان على رأس لائحة ضمت كتّاباً وشعراء وأدباء فلسطينيين. بعض هؤلاء اغتيل بعمليات متلاحقة والبعض الآخر أصيب وبقي يعاني مدى الحياة كما بسام أبو شريف وأنيس الصايغ. الرجل الدمث، صاحب فكرة «الموسوعة الفلسطينية» الذي فقد نظره، بسبب طرد ملغوم استهدفه، وبترت أصابعه وعاش مثقلاً بعاهته 37 عاماً قبل أن توافيه المنية. اغتيال إسرائيل لكنفاني أحد ألمع الأدباء الفلسطينيين وأكثرهم عبقرية، هو قتل بقي متواصلاً، للفكر والنخب والكلمة الحرة وحتى للمبدأ الوطني الذي لا يحيد. في شريط فيديو يتم تداوله بمناسبة هذا الاغتيال الوحشي لرجل كان خنجره مجرد قلم، يقول غسان كنفاني في مقابلة مع صحافي غربي: «بالنسبة لنا، الحرية، الكرامة، احترام حقوقنا الإنسانية هي أمور تساوي الحياة نفسها». سخر من الموت حتى الثمالة، وقرر أن يجعله مسؤولية الأحياء، الذين هم من سيتحملون تبعاته لا الذين دفنوا تحت التراب. اليوم نفهم أكثر من أي وقت مضى كنفاني. الآن ندرك ونحن نفتقد نخبنا ونضيع بوصلتنا ونغرق في الفوضى، أن غولدا مائير كانت تعرف جيداً ماذا تفعل. تعي تماماً ما كان بمقدور هذا القلم المسنون أن ينجز لو بقي نصف قرن إضافياً يشحذ وينحت في صخر المعنى تحريضاً وتشخيصاً ونقداً. ساءني وأنا في إحدى المكتبات الكبيرة في بيروت، أن أرى القراء يبحثون في الإصدارات العربية الأدبية الجديدة ويطيلون النظر، لا يعرفون ما يشترون، ولا يميزون اسماً واحداً بارزاً يأنسون إليه، ثم يسألون عن روايات مترجمة، منها ما لم يصدر ويترقبون نقله إلى العربية. لم يكن هذا حالنا أيام نزار قباني ومحمود درويش ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني. كان لنا أعلام وأقلام وقدوة وأساليب ولغة. الدمار لم يبدأ في بغداد والموصل والرقة وبغداد وبنغازي. في البدء تم تحييد العقل، وإقصاء الأدب وتشتيت الانتماء وتفريغ الرسم من معناه. كنفاني كان تشكيلياً أيضاً، أديباً ومسرحياً وناقداً، وصحافياً ودارساً جيداً للأدب الصهيوني. من بعده اغتيل الشاعر كمال ناصر، وكان على اللائحة ذاتها. بعد أن رثاه بقصيدة لا تنسى، طلب أن يدفن إلى جانبه ويرتاح بقرب مثواه، وهكذا كان. الكتّاب الذين اغتيلوا دون ورثة لم يكونوا قلة. خسارتهم تبدو أكثر فداحة بعد أن أصبح الجدب الإبداعي كارثة نحتاج أجيالاً للخروج منها. لا نزال نجهل، كيف اشتعل منزل الشاعر الفلسطيني راشد حسين في نيويورك، وكيف قضى فيه اختناقاً بعد خمس سنوات من رحيل كنفاني وناصر. صاحب ديواني «صواريخ» و«الفجر» ومقولة: «سيفهم الصخر إن لم يفهم البشر أن الشعوب إذا هبّت ستنتصر». كان ثورياً حتى النخاع، لشعره صداه ولقصائده وزنها في وجدان أهل الداخل الفلسطيني.
هل صدفة أنه من أم الفحم التي خرج أصحاب عملية القدس منذ أيام منها؟ هل صدفة أنه كتب «هذي القصائد سوف أذبحها بقش القمح لا بلسان خنجر. يا أيها الشعب الذي مسحوه شعراً، كن على رقباتهم نثراً لتذبحهم»؟
كان كنفاني ناثراً ينضح شاعرية، وإسرائيل تتحسس رقبتها بالفعل، في قصصه ورواياته، وهو يعيد سرد حكاية الخروج الكبير من أرض فلسطين، وذلّ اللجوء وعذاب الخيمة، لشعب تناثر في الأرض، من دمشق إلى بيروت وصولاً إلى الكويت. هناك عمل غسان مدرساً، وتشكلت شخصيته الأدبية الأولى لكثرة ما قرأ وأكل النصوص وهضمها، ليكتب رائعته «رجال في الشمس» عن أناس قضوا اختناقاً في صهريج مياه فارغ وهم يحاولون اجتياز الحدود خلسة، بحثاً عن شيء من كرامة. لكنهم، رغم مقاومتهم الموت، لم يستطيعوا أن يدقوا جدران الخزان الذي يحترقون فيه من شدة اللهيب، طلباً للنجدة.
فولاذية كنفاني، في أنه كتب حياته. كل قصصه وحكاياته، كانت ملتصقة بالأرض والناس المحيطين به. كان حقيقياً إلى حد مخيف، وعفوياً في التعبير حتى تظن عاميته هي هذه الفصحى المغمسة باليوميات. يروي التفاصيل الدقيقة التي لا تريد إسرائيل أن تسمعها، أو تترك أي أحد آخر يعلم بها. كما في روايته «عائد إلى حيفا» حيث تعود أسرة طردت عام 47 لتبحث عن بيتها فتجد عائلة يهودية احتلته وورثت ابنها الذي تركته صغيراً وصار ضابطاً في الجيش الإسرائيلي. هو تماماً كما ناجي العلي في كاريكاتيره النازف والمحلق مع ارتباطه الذي لا يقاوم، بالواقع في المخيمات والشتات وتحت الاحتلال. «ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة»، وهذا سرّ كنفاني حبيباً عاشقاً، أو وطنياً مناضلاً، بمقدوره أن يكتب كما يتنفس، ويروي كما لو أنه يتنزه. يقرأه المثقف والمواطن البسيط، بالمتعة ذاتها والتماهي عينه. هؤلاء أدباء ما قبل التكلف والاستخفاف والجوائز وفوضى العبقريات المصنّعة وروايات الـ«فاست فود». لذلك حين سئلت غولدا مائير لماذا أمرت باغتيال أديب مريض ينهشه داء السكر ويذيب مفاصله النقرس، وعلى الأرجح أن الحياة لم تكن لتمهله كثيراً، قالت: «كنت أود لو تقطع يداه ليكون عبرة لغيره. فقد كان أخطر علينا من كتيبة من الفدائيين الفلسطينيين». كانت غولدا مائير على حق. أدركت وهي الرائية الحاذقة، باكراً كم أن تلك الشخصيات الوطنية الصلبة، ستهدد أمن إسرائيل لسنوات طويلة جداً مقبلة، لأن كلمتها لا تموت ومتى سطرت لا تمحى. وكنا نظن يومها أن الـ«كلاشنيكوف» وحده هو القيمة العليا.