كتّاب الكرد ومثقّفوهم: لماذا؟
حازم صاغية
يتهيّب الديموقراطيّ العربيّ توجيه النقد للكرد الذين هم ضحايا مزدوجون للاستبداد العربيّ، وضحايا لكلّ استبداد قوميّ في المنطقة، تركيّاً كان أم إيرانيّاً.
ولا داعي للتذكير بقائمة المظالم، قتلاً وتهجيراً وإحراقاً للبشر والأرض وإنكاراً لكلّ هويّة كرديّة لصالح التعريب أو التتريك. وحتّى اليوم تستمرّ أشكال «ألطف» من التعامل مع الكرد كشيء مُسَـلّم به: هم، مثلاً، مطالَبون بمراعاة الحساسيّة العربيّة حيال إسرائيل، من دون أن يكون العرب مطالَبين بمراعاة حساسيّتهم حيال تركيّا.
مع هذا يبدو أنّ الحالة الثقافيّة الكرديّة تستكمل انتقالها من طور إلى طور: من سؤال «ما الذي يفيد الأكراد؟»، بوصفه السؤال المركزيّ، إلى سؤال «ما الذي يضرّ العرب؟». وهذه، مع تفهّمها كردّة فعل غاضبة، تبقى نقلة خطيرة: إنّها تعلن أنّ المشروع الساعي إلى التحرّر والاستقلال يتحوّل مشروعاً ثأريّاً خطره يعود أوّلاً على الأكراد. هذا لا يضمن لهم التحرّر والاستقلال، بل يضمن بقاءهم مادّة لحروب أهليّة متواصلة.
الدعم الدوليّ قد يوحي أحياناً بعكس ذلك، والكرد عموماً أشدّ تنبّهاً من العرب لأهميّة الحصول على دعم دوليّ. لكنّ هذا الدعم بذاته لا يكفي، وقد يتحوّل زيتاً يضاف إلى نار الحروب الأهليّة. في هذا السياق مفيد جدّاً ألاّ ينسى الكرد تجربتهم الإيرانيّة مع ستالين بعد جمهوريّة مهاباد، وتجربتهم العراقيّة مع كسينجر بعد اتّفاق الجزائر.
لقد عرفت التجربة الفلسطينيّة شيئاً مشابهاً كان الحدّ الفاصل بين قوّتها وضعفها، بين تعزيزها لحقّها وبين استنزافها له وما نجم عن ذلك من تآكل: إنّه الانتقال من تصوّر العالم العربيّ كبلدان ومجتمعات تقوى وتزدهر وتستطيع أن تطالب وتفاوض من موقع محترم، إلى تصوّره ساحات للحروب الأهليّة، الفلسطينيّون وقضيّتهم وقود نيرانها. أسابيع فحسب فصلت بين الاستيلاء على الأردن أو على لبنان وبين الهزيمة المنكرة في البلدين.
على صعيد النخبة الكرديّة تحديداً هناك ما هو أكثر: نوع من التجرّد عن الحال الذاتيّة بوصفها حال انسحاق وفقر وألم إلى التماهي مع الأقوياء والأغنياء حيثما وجدوا، لا سيّما إذا كانوا يضرّون بالعرب، علماً أنّهم هم أنفسهم يضرّون أيضاً بالأكراد.
في هذه البيئة الثقافيّة يمكن الوقوع على مزاج سائد: أغلب الشبّان وأغلب الشيوخ، أغلب المقيمين في الأوطان وأغلب المقيمين في المهاجر، يعبرون حدود الأوطان واللغات لكي يتّفقوا على التعاطف مع دونالد ترامب ضدّ نقّاده الأميركيّين والغربيّين. ومع أحزاب أقصى اليمين في أوروبا ضدّ الاتّجاهات الليبراليّة واليساريّة هناك. ومع «بريكزيت» ضدّ أوروبا. ومع القوميّات الشوفينيّة ضدّ اللاجئين.
هذا التوجّه اليمينيّ إذا كان نكاية بالعرب، فهو يقوم على خطأ فادح مصدره افتراض أنّ اليساريّة والليبراليّة تعصفان بالعرب!
أمّا إذا قام على إنكار الواقع الكرديّ والتنصّل منه تماهياً مع أصحاب الجبروت والسلطان، فهذا ما يدفع باتّجاه انهيار القضيّة الكرديّة كإحدى أكثر القضايا الإنسانيّة في عالمنا.
فالنخبة الكرديّة، والحال هذه، لا تصحّ فيها اليوم وصفة كره الذات (الذي يبقى أكثر صحّيّة، أو أقلّ مَرَضيّة، من عشق الذات). هنا نحن حيال مركّب غريب: كره للذات حيال الغربيّ الأبعد من هذه الذات والأشدّ كرهاً لها، وعشق للذات حيال العربيّ حتّى لو كان مشابهاً لها في افتقاره إلى أسباب القوّة والمنعة.
ذاك أنّ الغالب على الرأي الثقافيّ الكرديّ، لشديد الأسف، توجزه عاطفتان:
من جهة، تعلّق بالغربيّين الذين لا تسمح المعرفة بهم إلاّ افتراض كرههم للأكراد بوصفهم فقراء ومسلمين و… أكراداً. ومن جهة أخرى، حدّة ومغالاة قوميّتان حيال العرب، قوميّين كانوا أم غير قوميّين. وثمّة من يستطيع، في البيئة الثقافيّة الكرديّة، أن يؤيّد كلّ القوى السياسيّة الكرديّة دفعة واحدة، بغضّ النظر عن تباين ظروفها وبلدانها ومعتقداتها!
هل يعتقد المثقّفون والكتّاب الكرد أنّ وضعاً كهذا صحّيّ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية