قيمة وأسواق وحرب!
حسين شبكشي
يوم الاثنين الماضي حصل تطور مهم ولافت للغاية على صعيد حركات البورصات المالية العالمية عندما أصبحت الشركات الأميركية التالية: «آبل» و«مايكروسوفت» و«أمازون» و«ألفابيت» (المالكة لشركة غوغل) بقيمة مالية تتجاوز 5.97 تريليون دولار. في المقابل وفي الوقت نفسه كانت قيمة إجمالي سوق الشركات اليابانية المدرجة، التي تحتوي على كبرى الشركات اليابانية في معظم المجالات المختلفة، قد بلغت 5.84 تريليون دولار! هذا ولم يؤخذ في عين الاعتبار شركات مهمة ولافتة ومتألقة، مثل «وول مارت» و«تسلا» وغيرهما من الشركات العملاقة الناجحة.
شركة «آبل» تم تأسيسها في عام 1976، ووصلت قيمتها السوقية إلى الرقم الفلكي التريليون دولار في شهر أغسطس (آب) من عام 2018، بمعنى أدق وأوضح أن ذلك استغرق 42 عاماً من الزمان حتى وصلت «آبل» إلى قيمة التريليون، والآن وبعد مرور السنتين يبدو أن «آبل» ستصل إلى تريليوني دولار!
ما السر المحير وراء حالة الصعود المحموم لسوق الأسهم الأميركية، وبالتالي قيم الشركات الكبرى فيه رغم حالة الركود الاقتصادي حول العالم نتيجة تفشي جائحة (كوفيد – 19)؟ الإجابة هي الاستشعار المطمئن الذي أحست به الشركات نتاج حزمة الدعم المالي الفيدرالي الأكبر وغير المسبوقة والتي تجاوزت 4.2 تريليون دولار، مما منح الشركات الشعور بالطمأنينة وانتقل هذا الشعور إلى المستثمرين الذين ضخوا أموالاً هائلة في سوق الأسهم، أسهمت في طفرة استثنائية لا تزال متواصلة حتى كتابة هذه السطور. ولم يتوقف الدعم الفيدرالي عند هذا الحد فحسب، ولكن أضيفت إليه بعض القرارات المتعلقة بالإعفاءات والتخفيضات الضريبية لمساعدة الشركات على تحمل أضرار الأزمة المالية العنيفة الحالية.
منذ نشأتها اعتمدت الولايات المتحدة على مبدأ أصيل ومهم، هو الدعم المطلق لليبرالية الاقتصادية، وسن كافة القوانين لتحفيز رأس المال على المنافسة الحرة وكسر الروتين والبيروقراطية أمامه، مع تجريم الاحتكار والعمل الدؤوب على إبقاء التنافس قائماً بحرية وعدالة. حتى في أحلك وأصعب وأدق الظروف الاقتصادية، مثل فترة الكساد العظيم أو فترات الحروب أو خلال الأزمة المالية العالمية الكبرى، لم يكن من الخيارات القائمة أفكار متطرفة، كالتأميم أو مساندة القطاع الحكومي على حساب القطاع الخاص. وهو على العكس تماماً من النموذجين الاقتصاديين الصيني والروسي اللذين يدعمان شركات عملاقة منبثقة من دوائر داخل منظومة الدولة، تحمل في ظاهرها شكل الشركة الخاصة، ولكنها في الواقع واجهة عصرية للقطاع العام، ولذلك يصعب أخذ النجاحات الاقتصادية الروسية والصينية بمحمل الجد والنظر إليها بتقييم الحرية الاقتصادية والعصامية المطلقة.
للدبلوماسي السنغافوري المرموق كيشور ماهبوباني مجموعة مهمة من الكتب متعلقة بالتنافس الصيني الأميركي وقد باتت منطقة آسيا حلبته الأهم ويطرح سؤالاً لافتاً كعنوان لآخر كتبه «هل فازت الصين؟». يلوم الكاتب السياسة «الانسحابية» الأميركية من المنطقة والتي أحدثت فراغاً استغلته الصين وبدأت في تحويله لمصلحتها بهدوء شديد جداً. ولكنه يشير أيضاً إلى أن قوة الشركات الأميركية بقيت أهم عناصر التفوق الأميركي أمام قطاع هائل من المستهلكين في السوق الآسيوية العريضة، التي أصبحت مدمنة على المنتج الأميركي بشكل أكبر. وهذه النقطة كان قد أغفلها الكاتب الأميركي فريد زكريا في كتابه «عالم ما بعد أميركا» الذي توقع فيه الأفول الاقتصادي للشركات الأميركية وهيمنة الشركات الصينية عليها، ولكن من المهم أيضاً لفت النظر إلى نظرة قديمة استباقية عن القوى المختلفة للاقتصاد الأميركي في مواجهة الصين، والتي أشار إليها الكاتب الأميركي المهم جورج فريدمان في كتابه «المائة عام القادمة».
من المهم جداً عند المقارنة بين الولايات المتحدة والصين (وروسيا) مقارنة العناصر كلها، فبينما تركز الإحصاءات بشكل أساسي على الناتج القومي في كل دولة، يغفل الناس مقارنة دخل الفرد في الدولتين، وفي الحالتين وخصوصاً في الحالة الثانية، وهي الأهم، تميل الكفة وبقوة لصالح النموذج الأميركي.
النجاح الاقتصادي في أميركا جاء نتاج فكرة تحولت إلى منظومة ومنها خرجت القوانين والمصطلحات التي باتت تشكل القاعدة النظامية لمناخ النجاح والالتزام في العالم اليوم، وبالتالي من الظلم المقارنة بين من أسس للفكر الرأسمالي وطوره، مع من سرق نتاجه وقلده وينسبه لنفسه.
الحرب التجارية بين أميركا والصين لا تزال في بداياتها، والقادم سيكون أشد ضراوة، هناك العديد من الأسرار التي ستفصح عنها، وهناك أضرار ستعصف ببعض الأسواق، ولكنها في النهاية معركة وجود ومصالح، ولكل فريق أنصاره.