قضايا الشرق الأوسط بانتظار جلاء الصورة في فيينا
إياد أبو شقرا
مثيرة هي التصريحات المتتالية لفريق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المولج ملف إيران إزاء مسار مفاوضات فيينا حول ملف إيران النووي. ولكن من واقع متابعة حضور نظام طهران الثقيل في واشنطن وتشعّب نشاطاته داخل الأوساط السياسية والاقتصادية والأكاديمية والإعلامية – بل في قلب مركز القرار في البيت الأبيض – تنقسم الآراء لدى تقييم هذه التصريحات.
ثمة، مَن يقرأ في «التحذيرات» المتتالية أن «الوقت يوشك أن ينفد» على إنقاذ الاتفاق النووي نوعاً من حثّ طهران على الكف عن ابتزازها المستمر والدعوة إلى تنازلات ذات معنى من شأنها طمأنة المجتمع الدولي إلى نياتها الاستراتيجية. وفي المقابل، نجد متشككين من المؤمنين بحكمة أن «سوء الظن من بعض الفطن» يعتقدون أن أصدقاء طهران في واشنطن – بل داخل البيت الأبيض نفسه – ربما يمهدون للتعجيل بصفقة يُصار إلى تصويرها على أنها «إنجاز إنقاذي» تحقّق في اللحظة الأخيرة تحت «الضغط الأميركي»، في حين أنه لا يغيّر في الحقائق الأساسية شيئاً.
وبين الاتجاه التفاؤلي الأول الذي يعبّر عنه أصدقاء واشنطن، دولياً وعربياً، والاتجاه التشاؤمي الثاني الذي يقارب – إلى حد ما تبنّي «نظرية المؤامرة» – تندرج عدة قراءات تتفاوت في تفاؤلها وتشاؤمها تبعاً للظرف ومصدر التعليق ومعطيات الساعة والتطوّرات الآنية في مناطق نفوذ إيران الجديدة.
يعرف القاصي والداني أن إدارة بايدن ورثت نظرة إدارة باراك أوباما، ليس فقط إلى إيران الخمينية – الخامنئية، بل إلى الإسلام السياسي ككل، وكذلك إلى مستقبل منطقة الشرق الأوسط وأولويات الولايات المتحدة فيها. والدليل على وجود هذا الإرث – أو قُل الاستمرارية – الأسماء التي عادت مع استعادة الديمقراطيين البيت الأبيض في العام الماضي. ومن هذه الأسماء، على سبيل المثال لا الحصر، اسمان يحتلان موقعين حساسين جداً في مطبخ القرارات الاستراتيجية العائدة إلى الشرق الأوسط، هما: جايك سوليفان مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، والدكتور روبرت مالي متولّي ملف إيران في إدارة بايدن. ومالي، بالمناسبة، كان أحد كبار «مهندسي» الاتفاق النووي الإيراني المعروف رسمياً باسم «خطة العمل المشتركة الشاملة».
في الحقيقة، خلفية الفريق الأميركي المُشرف على التعامل مع مفاوضات فيينا، وردود الفعل عليها إسرائيلياً خاصة، أمر لا يجوز أن يغيب عن بالنا. وتصوّرات إدارة أوباما – وبالتحديد، تلك التي عبّر عنها بلسانه، وبصراحة كاملة – إلى كل من «الإسلام السياسي السنّي» و«الإسلام السياسي الشيعي» تقدّم صورة واضحة عن أي منهما تفضّل وترتاح إلى التعاون معه، وأي منهما تجده أخطر على مصالحها.
ثم إنه، حتى إبّان سنوات حكم دونالد ترمب الأربع، ما تغيّرت المقاربة الأميركية فعلياً على الأرض وما تبدّلت جذرياً مواقف الديمقراطيين بعد استعادتهم الحكم… بل ما زال الديمقراطيون مستعدين للتعايش مع الأوضاع التي خلقتها إيران بقوة السلاح والشحن المذهبي والتآمر على مؤسسات الحكم الشرعية حيث ظلت لها بقايا هشّة.
هنا، يفترض أن تفتقر قراءة المراقب لتحذيرات مالي إلى حسن النية. ذلك أن هذا السياسي والأكاديمي اللامع ذا الجذور الشرق أوسطية، والخبرة العميقة بشؤون منطقتنا وتياراتها، يعرف تماماً المادة التي يصوغها و«يقولبها».
إنه على دراية أكثر من كافية بتعدّدية الشرق الأوسط وتنوعه، ومشارب الفرق الإسلامية وخلفياتها، والتوجهات الراديكالية العربية، وحركات التحرّر الوطني من إيران شرقاً إلى الجزائر غرباً ضد القوى الأوروبية، ناهيك من مناخات «الحرب الباردة» وانعكاساتها على منطقتنا وشعوبها ونخبها وأنظمتها واتجاهاتها الفكرية.
وبالتالي، فإنني أسمح لنفسي بالقول إنه عندما تعامل روبرت مالي ورفاقه في عملية «التفاوض» على قدرات إيران النووية، فإنه كان يفهم تماماً أنه يتفاوض على تبعات سياسية عميقة… مرتبطة بقدرات عسكرية إقليمية.
كان مستوعباً، أيضاً، أن السلاح النووي، حتى عند الدول النووية الكبرى التي امتلكته وخزّنته، قدرة ليست مخصصة للاستخدام. والدليل أنها لم تُختبر في أي مواجهة عسكرية منذ 1945. غير أنه، في المقابل، ميزة ردعية وقائية وابتزازية ضاغطة.
بناءً عليه، فإن مالي، ومن هم وراء مالي، يعرفون سَلفاً بأن الغاية من سلاح إيران النووي هي «تهديد» مَن قد يتصدّى لتوسعها العسكري والمذهبي والاستيطاني الإقليمي. وبالتالي، الوصول إلى حالة «أمر واقع» يقبل بها ويذعن لها المجتمع الدولي، بالتوازي مع رعايتها تنظيمات وشراذم إرهابية تكفيرية تدّعي تمثيل «الإسلام السياسي السنّي». وهكذا يتحول الملالي وحرسهم الثوري إلى «شريك»، بل «حليف» للمجتمع الدولي، في الحرب على الإرهاب.
هذا المخطط حقّق حتى الآن نجاحاً باهراً. إذ تحوّلت، مثلاً، مهمة مواقف بعض القوى الكبرى التي تدخلت في الأساس بمحنة سوريا – في أعقاب مجازر السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة والتهجير الممنهج – إلى التصدي حصراً لتنظيم «داعش». كذلك صار «داعش» ضرورة ماسّة عند طهران لتبرير مزيد من ضغوطها على ما تبقى من شرعية في العراق، وتسويغ تحوّل هيمنة «حزب الله» على لبنان شيئاً فشيئاً إلى احتلال فعلي.
أكثر من هذا، عملت طهران، ومعها ماكيناتها الإعلامية الناطقة بالعربية منذ 2011 على «شيطنة» بعض الانتفاضات الشعبية العربية عبر اتهامها بأنها كلها «انتفاضات إخوانية»، ولكن طهران، في المقابل، وفي الوقت نفسه، كانت تدعم «إخوان» قطاع غزة.
خبراء شؤون الشرق الأوسط، وأيضاً في باريس ولندن على معرفة كاملة بهذه الحقيقة. وها هي الحكومة البريطانية بالأمس، خطت خطوة ذات دلالة عندما ضمّت الجناح السياسي لحركة «حماس» إلى قائمة «التنظيمات الإرهابية» بعدما كان هذا الاعتبار محصوراً بتنظيم «حماس» العسكري فقط. ثم إن القرار تزامن مع زيارة وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل إلى واشنطن. ومع هذه الخطوة، التي تأتي في مرحلة دقيقة من مفاوضات فيينا، ينسجم الموقفان البريطاني والأميركي من «الحركة».
من جانب ثانٍ، ولئن كان الهدف من موقف لندن الجديد من «حماس» الإسهام في الضغط على طهران، أكبر رعاة «الحركة» المهيمنة على غزة، ثمة مَن يتساءل عن الموقف البريطاني مستقبلاً من «حزب الله». هذا الموقف كان قد انسجم مع موقف واشنطن، فألغى التمييز الحالي بين الجناحين المدني والعسكري للحزب، لاحقاً بالموقف الأميركي الذي يعتبر الحزب كله تنظيماً إرهابياً… وبالأمس، تشدد الموقف البريطاني مجدداً بعد قرار لندن الطلب من البريطانيين الإحجام عن زيارة لبنان هذه الفترة بحجة أن الأوضاع فيه غير مطمئنة.
إنه سباق بين العصا والجزرة … مع قوة إقليمية لا تستطيب الجزر.