قرعة الحجيج الليبي إلى باليرمو
سالم العوكلي
قد أتت الحشود من تورين إلى باليرمو، في رحلة طويلة. «إنهم مثل مسيحيين متجهين إلى كنيسة سانت بيتر، باستثناء أن البعض هنا يرتدي طرابيش»، هكذا تحدث جياني، رجل من تورين، يرتدي قبعة سوداء اللون مصنوعة من اللباد تتخذ شكل مخروط مقطوع، التي أصبحت جزءا من الزي الرسمي الخاص بالفاشيين المُمثّل في القمصان السوداء التي يرتديها مجموعة من الشباب المهندمين شديدي الاهتمام بالمظهر. وأضاف: «لكننا لسنا أفرادا من زمن سحيق؛ فلدينا بطاقات ائتمان. ولا نرغب في إحياء تلك الحقبة، ولكننا في الوقت نفسه لا نريد إنكارها».
هذا ما نشرته جريدة (الشرق الأوسط) في عددها الصادر بتاريخ 4 نوفمبر 2011 ، تحت عنوان: “موسوليني يجذب «من قبره» عشرات الآلاف في إيطاليا”. حيث واكب الحراك الفاشي اليميني العام الأول من الربيع العربي، وتحجج هذا اليمن بأن الفوضى في شمال إفريقيا سيردم إيطاليا بالمسلمين. يقول الأب جوليو تام ــ أحد المشاركين في الحشود المنطلقة إلى باليرمو، إحدى معاقل الفاشية: «لقد كان موسوليني على حق؛ وسوف يبكي بحسرة في قبره لمشاهدته إيطاليا تنحدر إلى هذا المستوى …. نحن فخورون بالحملات الصليبية». فتصفق له الحشود وهي تهتف “دوتشي .. دوتشي” التي تعني (القايد) لقب موسوليني الشهير، وهو نفسه اللقب الذي استعاره فيما بعد القذافي ليحل محل اسمه.
تمددت تلك الحشود حتى وصلت إلى أغلبية وضعت اليمين المتطرف في سدة الحكم، وأصبحت باليرمو التي سيحج إليها “الوطنيون” الليبيون في مؤتمر تقاسم المصالح، هي محجة كل من احتفظوا بمزاجهم العنصري القديم وبخطابات وصور موسوليني على جدرانهم، محتفظين بذاك التبجيل الذي أزعج قادة إيطاليا العام 1945 بعد مقتل موسوليني، فحرصوا على إخفاء جثته وموقع قبره، مثلما فعل مقاتلو المجلس الانتقالي من مصراتة مع جثة وريثه الليبي معمر القذافي بعد مقتله، ومثلما فعلت القوة الكبرى، أمريكا، مع جثة عدوها السابق أسامة بن لادن، تجنبا لأن تتحول قبور هؤلاء الفاشيين إلى رموز أو أضرحة يتعبد عند أحجارها أولئك المرضى النفسيون الذين تعتريهم هستيريا الحنين إلى جلادهم.
بدأ الغزو الإيطالي لشاطئ ليبيا المقابل إبان الحكم الإيطالي الملكي، الذي سرعان ما اتجه إلى محاولات للحوار مع القوة الاجتماعية الليبية الموجودة على الأرض، ليترك هامشا أوسع للسكان المحليين في تمثيل أنفسهم، ما انبثق عنه الجمهورية الطرابلسية في الغرب الليبي بممثليها من أعيان المنطقة، وإمارة إجدابيا السنوسية في الشرق الليبي بحكومتها وبرلمانها البرقاوي، كمحاولة لاحتواء المجتمع الليبي تأسيا بالنهج الإنجليزي في إنشاء إمبراطوريته التي لا تغيب عنها الشمس.
غير أن الرجل اليميني المتطرف، موسوليني، الذي استغل الأزمة الاقتصادية الطاحنة داخل إيطاليا ومحاولة استثمارها من قبل التيار الشيوعي القوي، وأنشأ عصاباته الخاصة التي شكل بها قوة استطاعت أن تفتك بالشيوعيين في كل مدن إيطاليا، وأن تزحف على روما وتضغط على الملك الذي قرر اتقاء الشر بشر أقل منه، ليكلف قائد الميليشيات ذات القمصان الزرق موسيليني بتشكيل الوزارة، والذي كان قد بنى قواعدَ للحزب الفاشي معتمدا العنف كتكتيك لفرض سلطته وتزوير الانتخابات.
هذا الرجل اليميني الذي وصل إلى الحكم عبر ميليشياته وعبر سفك قدر كبير من الدم الإيطالي، صدّر هذا العنف بداية من العام 1922 إلى ليبيا، وأجهض محاولات الحوار والتعايش التي كانت دائرة في ذلك الوقت بين الليبيين والغزاة الطليان، ودفع الليبيون، خصوصا في الشرق، الذي كان تحت النفوذ السنوسي، أكثر من نصفهم في مقاومة هذا اليمين الإيطالي المتحالف مع النازية.
تلك الحرب الضروس لم تكن في الواقع مع دولة إيطاليا، لكن كانت مع اليمين العنصري بزعامة المهرج موسوليني الذي لا تشبه سياساته سوى طرق داعش الآن في محاولة إنشاء الدولة العالمية أو الإمبراطورية، وحتى هزائمه كانت بنفس طريقة هزائم داعش الآن.
لقد تركت دول استعمارية مثل بريطانيا، فرنسا، وإسبانيا، صلات قوية بينها وبين مستعمراتها السابقة، وتركت لغتها وثقافتها خلفها، لأن احتلالها لتلك الأراضي لم يكن له مضمون وخطاب فاشي أو نازي. سمّت بريطانيا تحالف مستعمراتها السابقة “دول الكومونولث”، وسمت فرنسا مستعمراتها السابقة “الدول الفرانكفونية” ، بينما معظم دول أمريكا اللاتينية ناطقة بالإسبانية لغتها الرسمية. لكن ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية لم تتركا خلفهما أثرا في مستعمراتهما السابقة سوى الخراب وملايين الألغام التي ظلت تحصد الأرواح لعدة عقود، وحين طُردتا من هذه المستعمرات اقتُلِعتا من جذورهما تماما، بثقافتهما وبلغتهما وبكل ما يمت لهما بصلة. لأن الاحتلالين، الفاشي والنازي، العنصرين لا تنطبق عليها كلمة استعمار (بجوانبها الإيجابية والسلبية).
إيطاليا الآن تتصرف مثل هذه الأمم الخبيرة في احتواء الشعوب التي استعمرتها، وتتصرف حيال ليبيا كمستعمرة قديمة، ويرجع ذلك إلى عودة اليمين المتطرف، من سلالة موسوليني وميليشياته، إلى الواجهة من جديد. وهي تعرف جيدا أن ليبيا قاومت الفاشية مثلما قاومها الشعب الإيطالي في ثلاثة عقود، وأنه بقدر ما استقبل الليبيون الحلفاء بالزغاريد والأراجيز، استقبل الطليان الحلفاء على أرضهم بالأغاني والورود، وعلقوا مهندس اليمين العنصري من قدميه هو وعشيقته.
هذه المرة فاز اليمين في إيطاليا عبر انتخابات نزيهة لا نستطيع أن نقارنها بانتخابات موسيليني وهو تغير في المزاج الشعبوي العام في الغرب الذي كان من أبرز ظواهره فوز الأرعن ترامب في انتخابات أقوى أمة على وجه الأرض حتى الآن.
وهذه المرة تذهب الأطراف الليبية بممثلين من ورثة فاشية “القائد” القذافي إلى مؤتمر ينظمه ورثة فاشية “القائد” موسوليني، مؤسس اليمين المتطرف الذي وضع شعبا كاملا في الشرق الليبي في معتقلات القتل والجوع. العاقل لا يدين الشعب الإيطالي الحميم والطيب في هذه الجريمة التي وقعت في عزلة وبعيد عن الضمير العالمي وحتى ضمير التاريخ، لكن نلوم اليمين الإيطالي الذي ارتكب تلك الإبادة الجماعية في ليبيا وارتكب جرائم لا تقل بشاعة عنها في إيطاليا.
لا أحد حتى الآن يعرف مصير جثتي القذافي وبن لادن، غير أن مؤيدي الفاشية من اليمين الذي تنتمي له حكومة إيطاليا الحالية، عثروا على قبر موسيليني وأخرجوا ما تبقى من جثته وطمروها في كنيسة في لومباردي، ليعاد دفنه بعد فترة في مقبرة العائلة ببريدابيو، وليتحول إلى ضريح اليمين الذي عاد إلى حكم إيطاليا، وعادت هواجسه القديمة حيال شاطئه الرابع ليبيا. والذي ستحج إليه أطراف النزاع الليبي التي لم تستطع، ولا مرة واحدة، اللقاء على الأرض الليبية المكتظة بعظام أجدادنا من ضحايا اليمين الإيطالي العنصري، الذي يعود هذه المرة عبر أساليب جديدة تليق بحاملي “بطاقات الائتمان” في جيوب قمصانهم السوداء، وعبر فوج الحجاج الليبيين الذاهبين دون مخيط أو محيط، والذين تم اختيارهم بطريقة لا تختلف عن أسلوب قرعة اختيار حجاج مكة.
أقول ، بتشاؤم موضوعي، إن مؤتمر باليرمو لن يحقق شيئا لليبيا لأنه كرنفال إيطالي لا علاقة له بالليبيين أو بليبيا، وعبر استدعائه لأطراف ليبية غير شرعية يسعى للحصول على شرعية دولية تفوض إيطاليا لإدارة الملف الليبي وفق مصالحها، أو بالأحرى مصالح اليمين الحاكم فيها الذي يستثمر شعبويا في الأزمة الاقتصادية الداخلية وفي ملف المهاجرين الذي يهدد صفاء العرق الروماني. وسينحصر نجاحه في تقويض ما وصل إليه مؤتمر باريس الذي تفاءل به الليبيون، على الأقل باعتبار فرنسا إحدى دول الحلفاء التي أنقذت ليبيا من نير اليمين العنصري الإيطالي إبان الحرب العالمية الثانية، وباعتبار فرنسا أسهمت بقيمها الجمهورية في إدارة التحول الديمقراطي في تونس الفرانكفونية التي تعتبر أنجح تجارب الربيع العربي.