قراءة معاصرة في العالم المعاصر
عبد المنعم سعيد
أين يبدأ العالم المعاصر؟ ومتى انتهى العالم الحديث؟ سؤالان يسألهما المؤرخون قبل الشروع في البحث. وفي العموم هم مترددون إزاءه، وعما إذا كان يمكن بحث أي أمر قبل مرور ربع قرن على حدوثه. وأكثرهم يرى أن نصف قرن يتيح بعضاً من الوثائق والأسانيد التي يمكن الاعتماد عليها.
بالنسبة للكتّاب فإنهم لا يستطيعون الانتظار، ومهمتهم الحالية هي تسجيل ما يحدث، باعتبارهم الجالسين على مقاعد الصف الأول المشاهد للتاريخ يمشي على قدميه، وتسجله أدواتٌ مسموعة ومرئية، وتنقل أسراره تسجيلاتٌ من كل نوع، ولا أعرف عصراً عرف أدوات للتواصل الاجتماعي، تنشر كما ينشر الآن، بكل ما يعني «الآن» من فجاجة وتراجيديا.
المحاولة التي سوف تجري هنا ترى أن العالم المعاصر ربما بدأ في عام 2011، ليس فقط لأنه العام الذي تساقطت فيه أوراق «الخريف العربي» نتيجة الزلازل التي جرت في دول عربية كثيرة؛ وإنما لأنه العام الذي بدأت فيه نذر مولد مرحلة تاريخية جديدة في العالم. هذا العالم الذي بدأ مرة أخرى. كانت بدايته عام 1989 عندما انتهت الحرب الباردة، ودخلت الدنيا ما عرف بفترة «العولمة» وغلبة النظام الليبرالي الديمقراطي الغربي، وسيطرة القطب الواحد، الولايات المتحدة. ولعل ذلك كان أقصر مرحلة تاريخية عرفها التاريخ.
وعندما يصل إليها المؤرخون على الأغلب سوف يختلفون عما إذا كان ممكناً اعتبارها «مرحلة تاريخية» على الإطلاق. فما أن بدأت الألفية الثالثة بعد الميلاد في 2001 جرى أغرب حادث يمكن تخيله، عندما قامت طائرات بالتفجير في مركز التجارة العالمي في نيويورك، لكي تعقبها سلسلة من الأفعال الأميركية لغزو أفغانستان، ثم غزو العراق في 2003. الآن نعرف المصير الذي آلت إليه هذه الحروب، وكيف تعاني واشنطن من معضلات الخروج منها، وهي تترك الأمور في أوضاع أكثر سوءاً من تلك التي أقبلت عليها.
ولكننا ما زلنا نستكشف الطريق إلى عام 2011، وسوف نجد أن المحطة الجوهرية قبله كانت عام 2008 التي شهدت أمرين لهما قيمة تاريخية كبرى، أولهما الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي كانت الأسوأ في التاريخ الاقتصادي منذ الكساد العظيم عام 1929. وثانيهما كان انتخاب باراك أوباما كأول رئيس من أصول أفريقية في تاريخ أميركا.
الأول أشهر أن «العولمة» ليست فضيلة عالمية دون ثمن أو نقيض، وإنما هي مولد لعولمة «الإرهاب» والأزمات الاقتصادية. والثاني كان آخر الموجات الباقية من الموجة الليبرالية على العالم، والتي دفعت أميركا إلى انتخاب أوباما للإيحاء بتغيير نفسها والتخلص من «العنصرية» وداء العبودية. تلاقت الموجتان كما تتلاقى الأمواج العالية في العام الذي كان فيه أوباما يسعى إلى فترته الثانية، ورغم فوزه فإنه لم ينجح في تمرير أي من تشريعاته إلا بقرارات رئاسية، سهلت بعد ذلك لدونالد ترمب، الرئيس النقيض، أن يزيلها بقرارات رئاسية أخرى.
والواقع هو أن ترمب بدأ الاستعداد الجدي لحملته الرئاسية في ذلك العام، ولم يكن وحده الذي بدأ، وإنما كانت البذور الأولى للحملة ضد الاتحاد الأوروبي قد بدأت في بريطانيا، ومعها كانت «القومية البيضاء» تشدّ أذرع اليمين الأوروبي والأميركي والغرب والعالم. وما أن انتصف العقد حتى وصلت جماعات يمينية متشددة بأفكار جديدة إلى قمة السلطة، وقبل أن ينتهي العقد الثاني من القرن العشرين حتى كانت «السلطوية» قد وصلت إلى البرازيل في غرب العالم، والهند في شرقه. «بيت الحرية Freedom House» الأميركي توصل هذا العام إلى «أن العالم يمر بالعام الثالث عشر من الانكماش الديمقراطي».
الديمقراطيات انهارت في كل إقليم، من بوروندي إلى المجر، ومن تايلاند إلى فنزويلا. ما هو مزعج تماماً أن المؤسسات الديمقراطية أثبتت بشكل مدهش رخاوتها في بلاد بدت فيه مستقرة وآمنة.
ما حدث في المنطقة العربية خلال عام 2011، وما ترتب عليه من تطورات في السنوات التالية أدى إلى سلسلة من الحروب الأهلية، وازدهار الإرهاب الذي تمكن لأول مرة في التاريخ الحديث من إقامة «دولة الخلافة» حتى سقوطها، دفع بموجات هائلة من المهاجرين واللاجئين والنازحين.
ولكن هذه الموجات لم تكن وحدها القائمة في العالم، وإنما بدأت قبلها وبعدها موجات مماثلة من أفريقيا وأميركا الجنوبية، وفي آسيا كانت هذه الموجات قديمة، قدم الحرب الفيتنامية والحروب الشاملة في كمبوديا ولاوس، وبعدها في بورما.
هذه الموجات الديمغرافية ذات الطبيعة العالمية استفادت كثيراً مما بدا كما لو كان عالماً موحداً لا يكون فقط لرؤوس الأموال والتكنولوجيا والقيم المختلفة، وإنما أيضاً للعمل والعمالة. وعندما تحول الاتحاد الأوروبي من تجمع أساسي لدول أوروبا الغربية إلى تجمع يشمل أوروبا كلها، بضمّ دول أوروبا الشرقية أيضاً، وبات للأكثرية فيها «فيزا» خاصة، وعملة موحدة، فإن حركة السكان سرعان ما استفادت من «السوق» الواحدة، وكانت في ذلك ضغوط كبيرة على العمل والتوظف في البلدان المؤسسة للاتحاد، والأكثر تقدماً.
كانت «العولمة» تقرب العالم بعضه من بعض، وفي الوقت نفسه، تجعله أكثر ازدحاماً، وكان هذا الازدحام هو ما أنتج موجة جديدة متعصبة نحو اليمين، لها حركات سياسية لا تميل للعمل من خلال المؤسسات، والتقاليد المرعية، وإنما من خلال التواصل المباشر مع الأفراد، وباختصار أصبحت «الشعبوية» سيدة الموقف.
في هذه اللحظة، ولد كثير من الحكام من أمثال بوتين في روسيا، وشي في الصين، ومودي في الهند، وترمب في الولايات المتحدة، وجونسون مؤخراً في بريطانيا، وبولسونارو في البرازيل، ودوارتيه في الفلبين، وإردوغان في تركيا، وأوروبان في المجر، ودودا في بولندا، ومادورو في فنزويلا. انقلب العالم رأساً على عقب، وبعد أن كانت الكلمات الشائعة هي «الديمقراطية» و«الليبرالية»، فإن الكلمات الذائعة باتت «السلطوية» و«المركزية» و«الديكتاتورية» و«الأوتوقراطية» و«الشعبوية».
ما كان عجباً في الأمر أن هؤلاء الرجال جاءوا إلى الحكم من خلال الانتخابات الديمقراطية، ولكن رؤيتهم لبلادهم وللعالم كانت مختلفة عما كان سائداً من رؤية عالمية للعالم، في هذا العصر أصبحت الرؤية «وطنية» و«قومية»، وفي كثير من الأحيان إثنية وعرقية.
أصبح فصل «الهوية» أهم الفصول في كتاب الأمم، وتسابق كتّاب وفلاسفة مثل «فوكوياما» و«فريد زكريا» على تأليف كتب عن الموضوع، وظهر أن التقدم التكنولوجي والثورات الصناعية الجديدة التي كانت المراهنة عليها في إعطاء الأفراد قوة العمل والمشاركة في القرار السياسي قد باتت بقدرات كبيرة تعطي طاقات هائلة لهؤلاء الرجال الأقوياء لقيادة العالم في مرحلة «معاصرة» تختلف عن تلك السابقة عليها.
إلى متى سوف تستمر هذه الفترة «المعاصرة»؟ وهل تمتد أم أنها لن تكون أكثر عمراً من «المعاصرة» السابقة عليها؟ هي أمور لا يمكن الحكم عليها الآن، فالمؤشر والبوصلة سوف يكونان دوماً في يد القادة والتكنولوجيا، ولكن القاعدة العامة ربما تكون أن الأزمان سوف تكون أقصر عمراً، حتى لو كان عمر الإنسان أطول من أي وقت مضي. ومن عاش سوف يرى كثيراً.