قد يكون أفضل ما في الحياة أخطاء
سالم العوكلي
نحن أخطاؤنا .. نخطئ لنرى الصواب حتى إشعار آخر .. نرى الصواب جيداً لنتجاوزه .. نفض طبقاته لنرى الأخطاء الذكية التي أوصلت إليه .. نخطئ ونعترف بأخطائنا ونحترمها لنكون أكثر جمالاً وأشد تواضعاً أمام خبث الأسئلة المتناسلة في يقين النظريات، أمام مراوغة المعرفة المشروطة بلحظتها ، ومغامرة التجربة التي لا تنفك تقشر بديهياتنا قشرةً قشرة.
الخطأ نشـاز الموقن الأليف، معالجته الحميمة محك التسامح والحوار والديمقراطية أيضاً. من هو الإنسان دون أخطاء تنزل به من رتابة الإقامة في المطلق إلى لذة العيش فوق الأرض والتغني بأنخابها ؟ والوقوف وجهاً لوجه أمام أسئلة الوجود التي كل إجابة عنها مشحونة بخطأ يبث فيها مزيداً من الفضول .. تأتي البدائه من تجارب أُغلقت لترسم محيطاً لحركة الإنسان، تفرض حدوداً تلجم فرس الأخطاء الوثاب، وترسم مستقيما يفضي إلى نقطة، ويظل الخطأ منحنى، وتظل لعبة الإنسان الأثيرة هي الفضول المشاكس .. الشغف الفطري بالمناكفة، والبحث الحثيث عن ثغرات لاختراق هذا النظام، عن ثقوب تتنفس عبرها الإرادة .. عن تأرجح خطاه فوق الصراط ثملا بالريبة.
يأتي المصلحون الحالمون أبداً، يقترحون يوتوبيا لمدينة فاضلة وعالم أثيري من دون أخطاء ، وفي النهاية “كل ما هو صلب يذوب ويتبخر في الأثير” ، وليكتشفوا دائماً أن عقلاً دون أخطاء لن يحث خطاه نحو ضوء لا ينفك يلوح في نهاية نفق لا ينتهي. تأتي الأيديولوجيات العظيمة محكمة السبك وحاذقة ، لكنها تظل معتمة ورطبة ما لم يتسلل إليها شعاع الحياة السري عبر كوى الأخطاء المقترفة بجدارة في حضرة جلالتها. الخطأ في العلم وليد تجربة مهجوسة بالثقة في النفس ، لكنه سلم إلى معادلة أخرى مرتبكة وخائفة على تخوم امتحانها .. الخطأ في الفكر مرتع الجدل العظيم ومحضن تواضع العقل مهما كان ذكيا وخارقا.. الخطأ في الحياة اليومية مشرق مثل العشب الطالع من شقوق الصخر .. مقيم لأود الحياة ومفعم بالمرح وحاذق في إنعاش ارتباك الروح أمام شيطنة الجسد .. الغريزة هوية الكائنات جميعاً، ومتنفس الأخطاء النبيلة ذات السلالة العريقة .. العريقة جدا .. حين ( يتمفزق ) الخطأً يغدو خطيئة بها بدأنا وبها نكابد هذا السعي المتواصل بين الإقرار والنسبية .. النسبية التي زلزلت غطرسة اليقين الأرضي وحقنت كل إجابة جازمة بعلامة استفهام لا تمحى ، وجعلت من عالم المعرفة حديقة تتجاور فيها الألون مثلما تتجاور الأخطاء والحقائق.
أنا أخطئ .. إذاً أنا هنا .. كوجيتو الريح العاصفة ، والمطر الصيفي ، والنهر الفائض عن الحاجة ، والإنسان المأخوذ بالتجربة. خطاً الصياد فرار الغزالة ، وخطأ الغزالة ضحكة الصياد .. براح كبير نتقصى فيه حدود أجسادنا ونختبر لدنه مغفرة الخالق الذي صاغ في أعظم تجلياته الشعرية هذا الكائن الخطّاء ، وأسجد له كل خلق فارغ من الغريزة .. نحن أخطاؤنا وأخطاؤنا نحن .. عبارة تجذبني كثيراً لأنها لا تخلو من الخطأ .
أخطاء العلماء في معادلاتهم المتسقة مغفورة بنسق الجمال فيها، ترسم كل مرة خارطة لتوق العلم إلى حث اكتشافاته إلى الأمام، كل خطأ اكتشاف لطريق مسدود، وكل طريق مسدود طريق إلى حدس آخر.
لم تلد الأرض طغاتها إلا حين أصبح اليقين الصارم آفة العقل المتغطرس، حيث يترعرع الجهل مدعيا معرفة لكل شيء.
الطغاة على مر التاريخ، وبكل أنواعهم، ينبعون من حقيقة أنهم لا يخطئون، أو لا يعترفون بخطئهم. وفي ذروة توقهم لمسحة الألوهية، وحاجتهم لرعية مطيعة لا يملكون إلا أن يفعلوا ذلك. يصبح الاعتراف بالخطأ وهن، والنقص ضعف، وهم في حاجة للظهور أقوياء لا يقهرون، والقوة ترهب معارضيهم غير المطيعين، أو توهم زبانيتهم ومنافقيهم بأنهم منزهون فيقدسونهم.
ومن أجل هذه الذود عن هذه القدسية خلقوا أشخاصهم ومؤسساتهم التي لا تني تحقن رؤوس الناس باليقين والنأي بها عن كل ما يجعلها تتفكر وتفكر، وظفوا المنابر الصادحة أمام رعية مخدرة، واخترعوا دوائر الدعاية والإعلام التي تجعل من التشويش والجهل قوت الرعية، وأعادوا كتابة التاريخ ليجعلوه مجرد ملحمة تبشر بميلاد الطاغية المعجزة، وحرموا الفلسفة أو كل علم من شأنه أن يقوي عضلات الدماغ أو ينعش لياقته، لأن العقل الرخو مطيع ومستسلم وقابل للغسيل في أي وقت.
العقل الناقد عدو الطاغية الأول، وعدو كل من يريد تثبيت أركان سلطته، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، والكتاب لا يرى فيه المستبد سوى مسدس مصوب نحو كرسيه الهزاز، ما يجعل كل مستبد يقول : حين اسمع كلمة مثقف اتحسس مسدسي.
لا يمكن أن يعترف بالخطأ ويعتذر عنه سوى عارف، أما الجاهل فهو ذلك الذي يرطن بصوت عال ويزبد موجها رذاذ لعابه صوب كل مشكك في يقينه، وموجها تهم الخيانة والكفر وخدش الحياء العام والطعن في الذات الإلهية لكل من يهدد سلام جهله الذي لا يزدهر إلا في مناخ خال من النقد، وخال من التردد، وخال من الارتباك حيال الحقيقة.