قابيل الليبي
نوارة الجبالي
لابد وأنّ الليبيين فُجعوا مِثلي بخبر الداعشي الدرناوي، الذي بأمرٍ من أمير الفتوى، أعدم شقيقه بدم بارد، لمجرد كونه موظفا في جهاز الدعم المركزي، بينما كان طوال الوقت يوهم والدته المفجوعة بأن شقيقه مفقودٌ فقط، ما يعطي الملتاعة المسكينة جرعة أملٍ في العثور عليه. لم أستطع إرغام نفسي على مشاهدة البرنامج الذي حوى عملية استخراج الإرهابي لجثمان أخيه، فلا شيء أصعب ولا أبشع من هكذا مشهد تنعدم فيه الإنسانية، وحتى الجريمة الأولى في التاريخ التي قتل فيها قابيل أخاه هابيلا، تُخبرنا كتب التاريخ أنها حدثت خلال مشاجرة ومعركة بين طرفين متكافئين تقريبا، ولكن الأهم أنّ فكر داعش الهدّام لم يكن حاضرا فيها.
فتوى داعشية يعجز إبليس عن الإتيان بمثلها. فالجهاد عبر نحر وإعدام “ذوي القربى”، يأتي ضمن سلسلة فتاوى التكفيريين، التي ابتدعها منظرو “القاعدة” حتى بلغت أوجها البشع لدى “داعش”. حيث صرح ولاته وفقهاؤه بأن قتل الأقارب مقدم على النفير للجهاد، ليضمنوا بالتالي قطع طريق العودة لمعتنقي الفكر المنحرف، فنموا لديهم شهوة سفك الدم بعد أن استحلوا دماء أقرب الناس إليهم. استهدف المتطرفون صغار السن لسهولة التأثير فيهم وجرهم لمستنقع الإرهاب، وتطويعهم كيفما شاؤوا ليكونوا أدوات لهم في أي مكان، حتى وهُم بين أهاليهم، وذلك لتكوين جيل جديد يسهل غسل أدمغتهم وانقيادهم لتنفيذ أوامر قادتهم مهما كانت غرائبيتها وبشاعتها. تخبرنا محنتا التي نمرُّ بها بالعديد من القصص المفجعة والمؤلمة التي سبقت حادثة التركاوي، منها الغامدي الذي قتل أباه، ومن يُدعى زورا بـ “الرشيد” الذي قتل خاله العسكري، والعنزي قتل ابن عمه الذي عاش معه في منزل واحد، وجريمة التوأمين “خالد وصالح” اللذين نحرا والدتها، تنفيذا لتعليمات الفكر المنحرف المخالف لأبسط قواعد الإنسانية، وهكذا نرى من خلال كل هذا أن الفكر الظلامي واحدٌ وإن اختلفت الأماكن.
كلما انحدر هذا الفكر إلى القاع، نكتشف أنّ هناك لا تزال مساحة متبقية للسقوط أكثر، فالتنظيمات الإرهابية تزعم امتلاكها الحقيقة وحدها دون غيرها في تقرير مصائر من يحكم عليهم سوء طالعهم بالوقوع تحت سلطتها، جاعلين من أنفسهم أوصياء على الدين. فهؤلاء الظلاميون موجودون في كل مكان، يريدون مثلا أن يسنّوا قانونا لقطع يد الجائع، قبل أن يؤمّنوا له لقمة العيش.
السؤال الذي يطرح نفسه، ونحاول الهروب من الإجابة عليه هو كيف أصبحنا بهذا التوحش والسوء، وأين ضاعت منا البوصلة؟ كيف تركنا أولادنا لقمة سائغة للتطرف الذي يُذهب بعقولهم، ويؤذينا في طريقه؟ هل هو الجهل والتجهيل الذي ابتلينا به خلال العقود العجاف التي سبقت الانتفاضة؟ أم هو الفقر المادي، والعوز في الفكر الذي يستند إلى ماضٍ مؤلم وتاريخٍ يغيبُ عنه العقل، نتذكره في أغلب الأحيان بألمٍ وحزنٍ شديدين.
حادثة الليبي التركاوي الذي ذهب التطرف برشده، لن تُمحى من تاريخ ليبيا الحديث، وبقدر ما هي مزعجة إلا أنها يجب أن تنبهنا إلى أن الأمر جللٌ، ولا ينبغي الاستهانة بالفكر المتطرف، حتى وإن بدا لنا بصورة ناعمة، فلا شيء يمنعه من التحوّل فجأة إلى عنف مقيت، فالمناهج التعليمة المدسوس بعضها بالسموم، والمنابر الإعلامية التي تضخ أفكار التطرف طوال الوقت، وتنبذ الدولة المدنية بدعوى مخالفتها للدين، هي جزء من المشهد القاتم الذي نعايشه.
لكن يبقى دور صنّاع الفرح والأمل، الذين يعشقون الحياة، والمبادئ الإنسانية السامية، وأنه في النهاية سيذهب الزبَد جفاءً، وننعمُ ببلدٍ آمنٍ خالٍ من التطرف والإرهاب.