في عشق المدن
محمد العجمي
يعشق القلب المدن كما يعشق النساء، فالمدينة حضن حانٍ، تستقبلك شوارعها في غضبكن ومقاهيها في أنسك، تلقي فيها ذكرياتك آمناً مطمئناً أن المكان لن ينساك كما ينسى البشر.
عندما أغادر مدينة أحببتها، أفتش جيوبي وحقيبتي في محطات الرحيل كأنما عقلي يخبرني بأنني نسيت شيئاً ما، وعندما أجد أشيائي مكتملة، أفهم أن جزءا من الذاكرة قد استقر هنا بلا رجعة.
أول مدينة يخطر علي ذكرها عندما أسوق هذا الحديث مدينة المرج، تطل في ذاكرتي كجدة حنونة اكتست بلباس أخضر مريح للناظرين، هي تلك العجوز ذات القصص الخيالية الممتعة، لن تجفو عليك مهما ابتعدت، وستظل موئلك الأخير عند كل خيبة، وفي ساعة تيهك تتوجه إليها دونما تردد، ليغشى الاطمئنان قلبك بينما تتثنى السيارة يمنة ويسرة عند مداخل الجبل الأخضر، أو عندما ترتفع أنفاسك صاعداً مرتفع (الباكور)، وترتسم ابتسامة طفل على وجهك عندما تداعب عينيك مآذن (الجامع الكبير).
لكن الشباب لن يقودك نحو جدتك بل نحو شابة صدودة اسمها (بنغازي) ستحبك ثم تطردك وتثور عليك، إلى أن تشتاقها مرة أخرى، ستعانق عيناك منارتها والوله باد عليك، ستحتضنك شوارعها كحبيب قديم، وتدمن بحرها، ستقع صريع مقاهيها وتتعود على الفكاهة السريعة مع أناس لا تعرفهم وربما لن تقابلهم مرة أخرى، لكن قلبك مادام شاباً فلن ينسى بنغازي.
وإذا نضجت فستجذبك أربعينية يبدو عليها الرهق، إنها (طرابلس) التي لا تعرف إلا العقل، ستتجرد من ريفيتك الحمقاء، تعرف أن الحياة قاسية وسريعة الإيقاع ولا تحتمل ظنونك العديدة، ستتعلم أن يصاحب الحذر كل خطواتك، ستتعلم أن رؤيا البحر وحدها كافية وأنت تتجرع شيشة على (طريق الشط)، ستسري في عروقك مختلف أنواع القهوة الإيطالية، وتفهم أن الإفطار المفرط في الحلاوة من (بريوش) المقاهي ضرورة حتمية كي يتحمل جسدك الهزيل رهق مجاراة هذه الأربعينية صعبة المنال، ستتعلم أبجديات الزحام واختيار المواصلات الصحيحة، لن يزعجك صراخ سائقي (الافيكوات)، ولن تبتسم إلا لمن تحب، ولن تضن عليك بالشعر مادمت في صحبتها.
قد أقول أنّ تفّهُم حب الأمكنة هو إحساس لا يمكن تعليمه أو اكتسابه فإما أن تملكه أو لا تملكه، فالمدن تُعشق لا يعاش فيها.