في سوريا.. الدونكيشوتي يعيد كتابة ” أدونيسية” بانياس
مروان العياصرة
في دمشق أكلت فوهات المدافع كل جدران الياسمين، وشوه الرصاص الأسود أبيض حلب الآرامي، والأوابد فيها تحولت إلى أشباح فرّت من عصور الحضارات القديمة التي تحتضنها حلب الشهباء.. تُرى.. هل كان هوميروس يعرف ما ستؤول إليه حلب اليوم من أسطورة الدم والـــــموت حين ذكرها في كلتا ملحمتيه الإلياذة والأدويسة..؟ هل كانت فعلا ذاكرتها الحضارية تتسع لكل هذا الزمــان الممتد من عصور الأغارقة والفينيقيين إلى ما تمثله هذه اللحظة التاريخية من أسطورة جديدة لا تحتاج سوى إلى (بانياس) الشاعر السوري القديم قِدَم حلبَ وبانياس المدينة المحاصرة بالموت من كل جهات الحضارة، لكي يؤرخها في ذاكرة الأجيال.. وهي باقية بكل هذا الجنون وهذه الوحشية والافتراس.
لا شيء يشبه سوريا اليوم غير سوريا في الأدونيسية الفينيقية لشاعرها العظيم بانياس.. كلتاهما أسطورة ملحمية كتبت حجتها بالدم، والإلغاء والنفي، عبر آلة القتل التي تمارسها سلطة عمياء لا تقدر ما في هذه الأرض من خصوبة في الآداب والأوابد والحضارة والقيم وتاريخ الناس والأديان والمعتقدات والأساطير والحياة بكل تجلياتها ومعانيها ومفهوماتها..
السلطة التي تجردت من كل هذا الثراء الحضاري، وأعلنت حربها على الأرض قبل الإنسان هي سلطة بلا ضمير، فالنظام الأسدي لا يحارب الناس والمقاومين بقدر ما يحارب تاريخ سوريا، وحضارتها، ويعلن خصومته مع الشجر والحجر، والمآذن وأجراس الكنائس، إنه نظام الرجل النحيل في الخمسين من العمر، دونكيشوتي القلب والقالب، الذي لكثرة ما قرأ في الفروسية والبطولة ظن نفسه حامي حمى العروبة والقومية وربما الإنسانية، لم يصور له وعيه الساذج طواحين الهواء سوى شياطين، وغبار قطيع الأغنام جيش جرار.. إنها الحرب التي لا ربح فيها..
مهما مارست آلة الأسد من قتل وتدمير فلا تقتل إلا صورة اللحم والدم، ومهما هدمت لا تهدم سوى الحجر، ومهما دارت رحى ملحمته فإنما تبقى الروح في كل حجر من سوريا، وفي كل بيت وشارع وقرية ومدينة.. والياسمين سيعود (يتعربش) على جدران البيوت العتيقة، وروح المقاوم والشهيد ستعود تنب مثل الشجر في طلائع أجيال الثورة الحقيقية، ولتذهب طلائع البعث لجحيم إحساسها بالخزي والعار.
ما الذي تبقى إذن من سوريا..؟
بقيت سوريا كلها، لأن روحها لم تمت، فأرضها تأخذ لون أرواح شهدائها ومقاتليها وأبطالها الحقيقيين، وهذا القاتل المستبد إنما يقاتل من أجل الخطيئة، لأن (كل ما يحجب الروح خطيئة)، وكما قال إيليا أبو ماضي فـ إن شر الجناة في الأرض، نفـــس تتوقــــى قبــل الرحيل الرحيلا.. هل هي إذن نبوءة الخلاص..؟ خلاص الروح من حُجُب خطيئة الجناة..
كل شيء تبقى في سوريا، ولتذهب السياسة للجحيم..
القليل من السياسة أمام الكثير من الدم والموت، وكما قال شيخ النهضة محمد عبده ‘أعـــوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس’، فما السياسة إلا الخديعة الكبرى التي تحولت فيها محبرة السياسة إلى مجرة للقتلى والشهداء والمشردين والمعذبين..’، وهل السياسة إلا الكذب والمكر والخداع؟’ كما قال محمد كاشف الغطاء..
المكر السياسي بين روسيا وأمريكا لا يقابله إلا نهر من الدم السوري، والمخادعة بين الصين وأميركا يدفع ثمنها آلاف من القتلى، والكذب بين جمهور جامعة الدول العربية لا يقابله سوى صراخ ثكلى ومغتصبة، ثم لا يلبثون أن يتنافخوا شرفا (أن تسكت صونا للعرض.. هل تسكت مغتصبة).. كما صرخ ذات لحظة مظفر النواب..
يذكر بشير العظمة في مذكراته (1991)، أن حكام سوريا في التاريخ القديم والحديث معا، لم يكونوا سوى فاتحين غرباء لا يعرفهم الناس إلا في كامل سطوتهم وبطشهم، وليس أدل على هذه السطوة والبطش مما هو حاصل اليوم، باسم الدفاع عن سوريا وإذا كان أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك قال (من قال لي بعد مجلسي هذا اتق الله قطعت عنقه)، فإن من آل ملك بني أمية بين يديه في دمشق اليوم قد قطع أعناق كل المتقين قبل أن يقولوا له اتق الله..
إذا كان الخيار المتاح في التاريخ العربي ينحصر في الاختيار بين الاستبداد والفتنة لا بين الاستبداد والحرية، كما قال غسان سلامة، فإن سوريا جمعت كل هذه الخيارات معا في خيار واحد.. أن تقابل كل هذا الاستبداد والطغيان والفتنة بإرادة المواجهة والتحدي، وفي حرية الموت والاستشهاد ما يتسع لكل معاني حرية الحياة، فإنما كل هؤلاء يموتون من أجل أن توهب لهم الحياة، والجناة والزناة والمغتصِبون سينتهون مهما أمدتهم سياسة المكر والمخادعة بكل وسائل البقاء، فالشهداء والشهود باقون، والتاريخ لا يرحم.
فلتكف ألسنة الفصاحة السياسية عن كل هذا الترف في التحليل والقراءة، فالمشهد السوري ليس بحاجة إلى تحليلات وبراعة خطابية عربية وأممية وربطات عنق وميكروفونات.. لا يحتاج إلا لوقف النزف.