في اماكن كثيرة لم يكن امام العرب الا خيارين : العسكر ام داعش
سأكتب اليوم عن هجمات باريس، ولكن قبل ذلك أود مشاركة القارئ في قصتين حدثتا هنا في الإمارات: الأولى تتعلق بولادة حْوار (صغير الناقة) من أول عملية انتساخ تجري للإبل، في مركز بحثي في "دبي" والثانية حول إطلاق خدمة "تاكسي ـ الطلب" التي بدأت تعم العالم العربي.
قد تعتقدون أن هذه المشاريع ــ انتساخ الإبل، وتاكسي الطلب ــ ليس لها علاقة بباريس، لكنها كذلك، فاصبروا علي.
نقلت صحيفة، ذي ناشيونال الإماراتية، عن د. علي رضا الهاشمي، المدير الإداري لمركز إعادة الإنتاج الحيوي في دبي قوله بأن: "عملية (إنجاز) المتعلقة بانتساخ أول بعير في العالم، قد أنتجت في 2 نوفمبر أنثى حوار بصحة جيدة وتزن 38 كيلوغراما" وكانت المولودة قد انتسخت عام 2009 من خلايا بويضة بعير نافق. في السابق وعندما أعلن عن حمل الناقة، صرح المدير العلمي للمركز بأن "سيثبت هذا الإنجاز أن العير المنتسخة يمكنها التوالد مثل العير الطبيعية."
أيضا انطلقت خلال الأسبوع الماضي خدمة طلب سيارات الأجرة بالهاتف، وقد خصصت شركة "كريم دوت كوم" 60 مليون دولار لتمويل هذه الخدمة في العالم العربي، مستخدمة التقنية لتسهيل الخدمات ، وبالأخص في المملكة السعودية، حيث لا يسمح للنساء بالقيادة، ويحتجن إلى سائق لنقلهن مع أولادهن.
إذن، وعلى بعد 1000 ميل جنوبا حيث انطلق تنظيم داعش في العراق وسوريا ــ وحيث يستخدم الجهاديون التقنية كذلك لإثارة الفوضى على نطاق واسع ــ هناك مجموعة أخرى من المسلمين (وغير المسلمين) في بلد عربي آخر، يشوشون على العالم، بالإبل المنتسخة وشبكات تاكسي الأجرة.
والرسالة؟ المحتوى الذي يمارس من خلاله العرب والمسلمون حيواتهم، له أهمية حقيقية هنا. ففي أماكن عديدة لم يكن لديهم سوى خيارين العسكر أو داعش فالقبضات الحديدية للجنرالات، تحاول دائما إسكات كل أنواع التمرد، أو جنون داعش، الذي يقول إن الطريق الوحيد للتقدم، هو السير بالعالم العربي ـ الإسلامي إلى التخلف.
لحسن الحظ ثمة طريق ثالثة: بعض نظم الاستبداد، والمَلكيات، وبعض الديموقراطيات الهشة التي استثمرت في شعوبها ونجحت في خلق جزر من العقلانية والاستقرار ــ تونس، الأردن، لبنان، كردستان، الكويت، المغرب، والإمارات ــ حيث يستطيع المزيد من الشباب العربي والمسلم من تحقيق طاقاتهم الكامنة، وتوكيد ثقتهم بأنفسهم من خلال عالم "الإبل" و"التاكسي"، وليس عن طريق تفجير باريس، وبيروت.
بالنسبة لي، السؤال الاستراتيجي الكبير في العراق وسوريا هو: ما الذي يلزم للقضاء على داعش تماما، وأن يستبدل بجزيرة سنية تتمتع بمقومات العقلانية والاستقرار؟
في البداية سيتطلب هذا الأمر تقييما حقيقيا عن مدى حجم التحدي المواجه.
منذ ستين عاما أبلغ دكتاتوريو أسيا شعوبهم: "سأحرمكم من حريتكم، لكن في المقابل سأوفر لكم أفضل تعليم، وأفضل اقتصادات تقوم على التصدير، وأحسنُ بنية تحتية ممكنة. وخلال نصف قرن ستبنون طبقة متوسطة يمكنها بالتدريج استعادة حريتكم." لكن في العالم العربي منذ 60 عاما، قال الدكتاتوريون لشعوبهم: "سأحرمكم من حريتكم، وأعطيكم مقابلها قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وهو موضوع مثير سيصرفكم عن فسادي وقسوتي،"
الفرق هو: بعد 60 عاما انطلقت المعجزة الاقتصادية الأسيوية، وفي الوقت ذاته ازدادت حدة التدهور الحضاري والفوضى في كل من اليمن، وليبيا، وسوريا، والعراق.
بالنظر إلى ما سبق، أعتقد أن السياسة الخارجية لأميركا يجب أن تكون كالتالي: حيثما تكون هناك فوضى، يتعين عليها المساعدة في خلق النظام، الذي بدونه لم يحصل أي شيء جيد. سأميل إلى القبول بالسيسي بدلا من الإخوان المسلمين، ولكن نحتاج إلى دفعه ليكون أكثر لياقة وتطلعا إلى المستقبل، وفي هذا لم يحقق السيسي نجاحا: فرؤيته هي تحقيق النظام من أجل النظام نفسه دون تحقيق تقدم إيجابي.
أما النظام اللائق فأجده في دولة الإمارات العربية المتحدة، والأردن، وكردستان، ويجب تشجيعه لحثه على التدرج نحو المزيد من الانفتاح والدستورية. وحيثما وُجد نظام دستوري، كما عليه الحال في تونس، فيجب حمايته كما تحمي زهرة نادرة.
يخبرني صديقٌ عراقي ما تزال عائلته تعيش تحت سيطرة تنظيم الدولة في الموصل، بأن الحملة المكثفة التي يقوم بها أوباما مع الأكراد تؤذي داعش كثيرا، وربما لهذا السبب يحاول الأخير التغطية بصب حمم الموت على باريس. لكن الداعشيين أذكياء وما يزالون بالغي الخطورة. وأنا أدعم المزيد من القصف، والقيام بعمليات خاصة لإضعافهم واحتوائهم.
لكن قبل أن نتجاوز هذه النقطة، علينا مواجهة هذه الحقيقة: لتهزم داعش (السنية) بصورة مستدامة، تحتاج إلى سنة صالحين لا يؤمنون بفكر داعش ليتمكنوا من خلق "جزيرة نظام" تحل محلهم. ولكن للأسف، يبدو أن إيجاد هؤلاء السنة الصالحين غير الداعشيين لا يأخذ أسبقية بين جميع الجيران.
فالأتراك مهتمون أكثر بهزيمة الأكراد، والسعودية وحلفاؤها الخليجيين مهتمون أكثر بهزيمة إيران ووكلائها في العراق، واليمن، وسوريا، وتهتم قطر أكثر بتشجيع الإخوان المسلمين في سوريا ومناكفة السعودية. وإيران منشغلة أكثر بحماية الشيعة في العراق وسوريا، أكثر من اهتمامها بخلق مساحة مناسبة يزدهر فيها السنة الصالحون، بينما الكثيرون من نشطاء السنة غير الداعشيين يُصنفون بالإسلاميين. ولن يتخلوا عن صفتهم هذه. فكيف إذن يمكنك أن تنسج سجادة مناسبة من كل هذه الخيوط؟
لا أعرف ــ وإلى أن أعرف، سأتوخى الحذر من الذهاب أبعد مما فعلنا حتى الآن. قد تكون باريس مختلفة اليوم، لكن الشرق الأوسط ليس كذلك.
بقلم: توماس فريدمان
انترناشيونال نيويورك تايمز