في الخندق مع الشعراء
عبد الرحمن شلقم
العالم في حرب صامتة، لا ضجيجَ فيها إلا لبعض الساسة والمعلقين الذين اتخذوا من القنوات الفضائية خنادقَ يطلقون منها قذائف صوتية من دون انقطاع. أستاذ في علم الفيروسات يتسابق عليه الإعلاميون يحلّل ويركّب يتنقل من محطة إلى أخرى. القنوات تحوَّلت إلى عدادات لا تتوقف، تعرض أرقام الموتى والإصابات والذين نالوا منَّة الشفاء.
البيوت خنادق متنوعة في معركة الكُمون الطوعي الإكراهي. وليس أمام ساكنها إلا إبداع دنيا صغيرة فيها امتدادات للحياة. التواصل مع الأصدقاء والأقارب والزملاء، جعل من الهاتف سيداً آخر له قوته الخاصة.
الموضوع مركب ولا يخلو من التعقيد والترهيب. القنوات التلفزيونية وما تبثه من أخبار متواصلة عن جائحة الزمان، تحوّل كل الوجود إلى ثقب ضيق وأحياناً مغلق. تحتاج إلى وضع خطة تكتيكية في معركة الخنادق. أولاً، اختيار سلاحك القادر على تمكينك من الصمود والتصدي! واستيعاب الجولة الأولى من المواجهة. ثانياً، إبداع دنياك في هذا الامتداد المحدود والعميق والشروع في استعمال سلاح المقاومة، لكن نوعية السلاح تتوقف على قدراتك ومزاجك أيضاً. بيتك الذي لا تغادره اليوم هو غير بيتك الأول، الذي عشت فيه وعاش معك سنوات وعقوداً وصغتما معاً نمطاً ثابتاً من العلاقات.
تغادره لتعود إليه بعد أن تطوف بمناكب الدنيا القريبة والبعيدة وتعود إليه، ليس فقط بما تحمله في يديك، لكن أيضاً بما تحمله من مشاعر وحيوية نفسية واجتماعية. محراب اللقاء صار اليوم خندقاً لك وحدك أو برفقة عدد من أفراد العائلة.
غاب رفاق المنتديات والمقاهي، بل وشركاء المسيرة في الشوارع الذين لا يعرفون بعضهم بعضاً، لكنهم يتقاسمون فضاء الحياة المتحركة في صخب إنساني لذيذ. ليس أمامك اليوم إلا أن تستدعي أصدقاء وندماء إلى حيث تمكثُ طيِّعاً مكرهاً، لكن هيهات هيهات. لم تعد الخطوات هي ذاتها التي كانت ترفع الأجساد إلى حيث ترغب، ولم تعد الأفواه التي تخاطب الحميم طيوراً ترفرف بكلمات الود وتمد خيوط المشاعر بين الأحبة. الكمامات تغلق أبواب الوصل الصوتي بين آذان الأحبة، ففيها لمعة الإنذار بالخطر الذي لا يصمت. الخطوات صارت في يد السلطة، وصار الناس في حبس حظائر ضيقة بأمر القانون وهو الحبل الذي يشدّك إلى وتد الضرورة في بيتك الجديد. أنت في مستطيل أو مربع به أكثر من وتد وحبل، فلا تمد خطوك متوهماً أنك طليق. وسيقول لك طرفة بن العبد حقيقة ما أنت فيه:
فإن تبغنِي في حلقة القومِ تلقنِي
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطدِ
كان طرفة متمرداً طليقاً يعشق الحياة ويتدفق في دوائر مجتمعه بين علية القوم، ولا يغيب عن أوكار مباهج الحياة مع الندمان. لكنه يعاتب ابن عمه مالكاً بالقول:
لعمرك إنَّ الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخَى وثنياه في اليدِ
يقول له، نعم نحن أحياء ننطلق إلى حيث نريد، لكن لكل منا حبلاً ـ الطول ـ مربوط به مثل الحيوان وثنياه في يد مالكه. وهذا هو اليوم حال ساكني الخنادق، الحبال التي تربطهم في يد حاكمهم الوباء الرهيب، بل حتى الحكام السياسيون اليوم صاروا من ضمن المربوطين بحبله غير المرخى في هذا الزمن.
ويطوف بنا صاحب معلقة خولة في زمانه الذي نستعيده ونحن في خندق الإكراه الطوعي متحدثاً عن القرب والبعد عن من يحب.
يحدث ابن عمه عن البعد الذي أراده بينهما. قال له:
فما لي أراني وابن عمي مالكاً
متى أَدْنُ منه ينأ عني ويبعدِ
هذا هو حالنا اليوم، كل يبعد عن الآخر متخندقاً في مربعه الصغير مرغماً.
أما أبو الطيب المتنبي، فقد عاش حالنا اليوم منذ أكثر من ألف سنة، عندما داهمته الحمى في غربته وفعلت به ما فعلت، وخاطبها كأنها بشر زائر حمل إليه الألم والمعانة وأقعده في الفراش. عاتب الطبيب الذي لم ينجح في تشخيص حالته. قال له إن داءك فيما تشربه وتأكله. قام الشاعر بتشخيص حالته بنفسه منقذاً علم الطبيب القاصر عن إدراك حقيقة مرضه، قال:
يقول لي الطيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤك في شرابك والطعامِ
وما في طبِّهِ أني جوادُ
أضرَّ بجسمه طولُ الجمامِ
تعوَّد أن يغبر في السرايا
ويدخل من قتامٍ في قتامِ
فأمسك لا يطالُ له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجامِ
كانت الحمى التي سمَّاها المتنبي بنت الدهر هي الطول الذي ربطه إلى فراشه، وهو الذي وصف نفسه بالحصان الذي لا يروم المقام والسكون. عاتب الطبيب والمرض. الأول أخطأ التشخيص والثاني قهر حيويته. الشاعر معنا اليوم نقاسمه ألم الرباط الذي يحجرنا عن أن نغبّر في سرايا الحياة العامة بحرية لا يقيدها أمر أو نهي.
هذا العالم الذي قلنا عنه يوماً إنه صار قرية صغيرة يعيش فيها مليارات البشر، واختزلوا مقاييس المسافات، هذا العالم تحول إلى حلقات ضيقة مقفلة الحدود وغابت الكيانات الطائرة في الجو التي تنقل الملايين الذين لا يعرفون بعضهم من قارة إلى أخرى. صارت الدنيا غير ما عرفنا وألفنا وضاقت بما رحبت. كسر حواجز المكان محكومة بقرارات من يحكمون، لكن الزمان له رحابه التي لا يملكها إلا هو ويمكننا أن نعبر فيه إلى من نشاء، نلتقيهم بلا كمامات أو قفازات أو مسافات يحددها الأطباء والمختصون. الشعراء يجاوروننا في خندق الزمان الذي نصنعه، بل يصنعونه لنا بنتح إبداعهم الذي يتمرد على الحبل المرخى بقوة الحروف. ثالث الرفاق اليوم هو الشاعر علي بن الجهم الذي طاف بسلاح شعره الزمان والمكان. نستعيده في عكاظية – الخندق البيت – لنجعل من بيوت الشعر بيوتاً ورحاباً تتحالف معنا في معركة الكمون الطوعي الإكراهي. قال أبو الحسن علي بن الجهم في حالنا الجديد القديم:
كأنَّ بلادَ الله حلقة خاتمٍ عليَّ
فما تزدادُ طولاً ولا عرضَا
نعم، هكذا صارت قارات العالم بلاد الله، ضيقة بحجم حلقة خاتم لا يمكن للبشر الحركة منها أو إليها، وقال أيضاً في بنات الدهر التي لا تغيب عن الدنيا:
كفى حَزَنا أنَّ الخطوبَ سعت بنا
وأنَّ بنات الدهر تركضنا ركضَا
ويصف ما كان فيه يوماً وما نحن فيه اليوم؛ إذ يقول:
كأنْ لم تكن ليلى تُزار ولم أكن
أُزارُ إذا ما غبتُ عنها وأُوصلُ
هكذا الناس اليوم لا تَزورُ ولا تُزار، كل في محبسه قعيد. لكن ابن الجهم ينسج بشعره البليغ خيوط الوصل رغم نوازل الأيام. كيمياء الود والحب تصنع قوتها التي تخترق جدار حاجز المكان وتبدع مسافتها الخاصة، قال أبو الحسن:
أبلغ أخانا تولى الله صحبته
أني وإن كنت لا ألقاهُ ألقاهُ
وإنَّ طرفي موصولُ برؤيتهِ
وإن تباعدَ عن مثواي مثواهُ
الله يعلُم أَنّي لستُ أذكرهُ
وكيف أذكرهُ إذ لستُ أنساهُ
كانت هذه صحبة مع من خبروا صروف الدهر وبناته، وكتبوا بحروف الإبداع، ما نخلوه من حِكمِ الزمان. يودّعنا الشاعر علي بن الجهم ببيت حكمة بليغ نقف عنده ونحصّن به خندقنا الذي هو عالمنا الفسيح رفقة الشعراء:
هي النفسُ ما حمَّلتها تتحملُ
وللدهرِ أيامُ تجورُ وتعدِلُ