فيلم TENET: نولان يعيد للسينما هيبتها!
سواء أحببت أسلوب كريستوفار نولان في الإخراج السينمائي أو كرهته، فلا يمكن إنكار أهميته بالنسبة لصناعة السينما في الماضي عمومًا، وفي الحاضر خصوصًا.
عندما ضرب فيروس كورونا العالم في بدايات 2020، تم غلق السينمات كإجراء احترازي. وحتى بعد عودتها، لم تكن الإيرادات كما كانت في الماضي. بات هناك رعب شديد من التجمعات، وبذلك أصبحت صناعة السينما في أضعف فتراتها حصرًا.
لم يتوقع أحد أن يصدر فيلم يُعيد للسينما هيبتها من جديد، ويجذب الجمهور المرتعد من الفيروس، لأن يجلس في صالات العرض من جديد. وهذا بالفعل ما قام به فيلم TENET للعبقري كريستوفار نولان.
فماذا يا ترى قدّم لنا مخرج Inception هذه المرة؟
كعادة أفلام نولان، في أول ساعة تكاد تُجزم أن الفيلم خالٍ تمامًا من القصة؛ لكن سرعان ما تتدارك أركانها ضربًا بالمطرقة.
يبدأ الفيلم مع محاولة تفجير إرهابي في دار أوبرا شهيرة، وبطلنا هو عميل مهمات خاصة، والغرض من وجوده هو إنقاذ شخصية معينة. لكن سرعان ما تنقلب الأحداث رأسًا على عقب، وتفشل المهمة؛ ليصير بعدها أسيرًا لدى قوّات الهجوم الإرهابي. بشكل ما استطاع بطلنا النجاة، وهنا تدارك أنه على أعتاب دخول مهمة جديدة من أصعب المهام التي أُوكلت إليه في حياته.
المهمة تحت اسم TENET، وتنطوي على إنقاذ العالم من خطر مجيء حرب عالمية ثالثة. لكن هذه المرة الحرب لن تدور رحاها بين الرؤوس النووية وأسلحة الدمار الشامل، بل بالمواد القادرة على عكس نفسها. فبدلًا من أن تنطلق الرصاصة للأمام، نجدها تعود للخلف. لذلك بدلًا من أن يُطلق بطلنا الرصاصة، عليه أن يلتقطها.
السؤال الرئيسي هنا: من أين أتت تلك الرصاصات؟ وهذا السؤال بعينه ينقلنا لطرح عشرات العشرات من الأسئلة المتعلقة بماهية المادة التي دخلت في صنع تلك الرصاصات، والغرض من صنعها، والزمن الذي صُنعت فيه. وهذا كله بجانب التساؤل حول أهميتها بالنسبة للشخص الذي ينوي استخدامها لبدء حرب عالمية ثالثة.
للإجابة عن كل تلك الأسئلة، بالطبع عليك مشاهدة الفيلم. لكن لأوفر عليك مشاهدته لثلاثة أو أربعة مرات، أنصحك بتذكر أن كلمة TENET لها نفس النطق إذا بدأتها من أول حرف لآخر حرف؛ أو العكس.
انطباع عن القصة
نولان هنا هو المؤلف والمخرج سويًّا، لذلك سنجد القصة متوازية مع طريقة الإخراج المعهودة منه. لكن بعيدًا عن الإخراج الذي سنتطرق إليه لاحقًا، القصة لها الأهمية هنا.
هناك مجموعة من عناصر التميز (وكذلك عناصر الفشل) التي انطوت عليها تلك القصة، ويمكن القول إن الفيلم له ما له، وعليه ما عليه.
الخطّية؛ خطيَّة
في أفلام نولان، صنع قصة ذات نمط خطّي، هو خطيّة في حد ذاته. بالنسبة لهذا السينمائي البارع، القصص الخطية قد تجعل الأحداث متوقعة في بعض الأحيان، ولذلك المؤلف مُجبر على اختراع العديد والعديد من نقاط الجذب لتجعل المُشاهد جالسًا أمام الشاشة لأطول فترة ممكنة. هذا عبء على الكاتب؛ خصوصًا أن السينما وصلت لمرحلة باتت فيها الأفكار كلها متشابهة بدرجة كبيرة جدًا، ومن النادر أن تخلق قصة أصيلة المحتوى بنسبة 100%.
أفلام نولان عمومًا -وفيلم TENET خصوصًا- تتميز بعدم وجود قصص خطية أبدًا. لتقريب الفكرة أكثر، تخيل نفسك نولان الآن، وجالس أمام الحاسوب تحاول كتابة قصة فيلم جديد. أول ما يأتي في ذهنك هو سرد الأحداث بطريقة خطية فعلًا، وصنع قصة تحتوي على بداية ووسط ونهاية. لكن لأنك نولان بالتحديد، ما ستفعله هو تجزئة كل مرحلة إلى مراحل صغيرة، ومحاولة صنع قصة جديدة عبارة عن مزيج من كل تلك المراحل بطريقة تُظهر منطقيتها في النهاية فقط.
ذلك الأسلوب في السرد القصصي في الأساس قوته تظهر في الروايات البوليسية أو روايات الإثارة بشكلٍ عام. في الواقع، تتميز كتابات دان براون بهذا الأسلوب السردي. لكن لا تخلط بين السرد والسيناريو. السرد هو طريقة تركيب قطع الأحجية مع بعضها البعض، لكن السيناريو هو تفاعل الشخصيات بداخل كل واحدة من تلك القطع.
السرد كان ممتازًا، لكن السيناريو ” غرق في الغموض”
سرد نولان في العادة ما يكون دافعًا لإعمال العقل باستمرار، وقادر على إضافة هالة من الغموض على القصة؛ حتى ولو كانت سطحية. لكن السيناريو هنا قام بنفس مهمة السرد، فأضاف هو الآخر هالة أخرى من الغموض. وبذلك بات الفيلم مبهمًا تمامًا للأسف. فمثلًا في Inception، تبدأ تدارك القصة بعد أول نصف ساعة من الفيلم، لكن في TENET قد تقضي ساعة ونصف من أصل ساعتين وأكثر، دون أن تفهم فعلًا لماذا يحدث كل هذا من الأساس.
اعتمد الكاتب على إظهار مفاتيح الأحجية في نهاية الفيلم، دون العمل على طرحها بشكلٍ تسلسليّ على مدار الأحداث. هذا جعل تجربة المشاهدة غير مريحة بعض الشيء. أن تجعل الفيلم غامضًا ومثيرًا؛ هذا ممتاز. لكن أن تجعله غارقًا في الغموض؛ هذا خطأ فادح لا يقع فيه إلا المبتدئون.
النهاية غير المفهومة
بالرغم من شبه اكتمال الأحجية في نهاية القصة، إلا أن هناك بعض القطع غير الموجودة, ربما قد يعتقد البعض أن نهاية الفيلم مكتملة ومرضية وأجابت عن الكثير من الأسئلة المطروحة؛ إلا أن البعض الآخر قد يرى أنها نهاية مفتوحة فعلًا. فعندما وصلنا إلى خاتمة الحكاية، كانت هناك شخصية واحدة، ذات وجود غير مبرر بالقدر الكافي بعد. شخصية واحدة بعينها/ تشاركنا معها الكثير من اللحظات خلال الفيلم، وباتت ركيزة أساسية فيه، لكن لم تفسر وجودها إلا بعبارة واحدة فقط؛ لا تُسمن ولا تغني من جوع.
وإذا تركنا تلك الشخصية جانبًا، سنجد أن الفيلم يحتاج إلى شرح بعد الوصول لنهايته. لا يمكن لأحد أن يُجزم أن النهاية غير المفهومة، بمثابة نقطة إيجابية للفيلم أو لا. لكنها واحدة من علامات نولان السينمائية بدون شك.
الشخصيات مميزة جدًا في الواقع. البناء الخاص بالشخصيات الرئيسية جعل الدوافع تتناسب مع ردود الأفعال، وذلك كله في قالب من المفترض أن يكشف عن تلك الدوافع بطريقة معكوسة في الأساس. لكن نعود لنقطة إغراق السيناريو في الغموض، تلك النقطة بعينها جعلت فهم الشخصيات واحدًا من الأشياء التي لن تحدث إلا عند مرور حوالي ساعة ونصف من مدة عرض الفيلم على الأقل. هذا قد يقتل المتعة بالنسبة للبعض.
وبجانب الشخصيات الرئيسية، تأتي الشخصيات الثانوية؛ وهنا يأتي التهميش. الشخصيات الثانوية تكاد تكون ليس لها أي أهمية على الإطلاق في هذه القصة. أتت كمجرد أدوات مساعدة لأبطال العمل لكي يقوموا يدفع القصة للأمام (أو الخلف). بمنظور الفن، الشخصيات الثانوية المبهمة هي نقيصة في حق المؤلف، لكن بمنظور TENET تحديدًا، فهذه القصة لا تتحمل أن تكون للشخصيات الثانوية أهمية فعلًا.
الفيلم من بطولة John David Washington، وسرعان ما يظهر بجانبه Robert Pattinson. وبالرغم من الأداء الممتاز والخارق للممثل جون، إلا أن روبرت خطف منه الأضواء بشدة. والفضل كله يرجع لهالة الغموض التي تلحفت بها شخصية روبرت، بينما شخصية جون مكشوفة بدرجة كبيرة لعين المُشاهد. وبالطبع لن يكون هناك رد فعل من قِبل المُشاهد إلا إذا كان التمثيل نفسه؛ متقنًا بشدة، ومن قبل كليهما.
تميز جون بأداء المشاهد القتالية باحترافية منقطعة النظير بالنسبة لمسيرة فنية لم تبدأ بشكلٍ احترافيّ إلا منذ عام 2017. بينما برع روبرت في أداء شخصية تحبها من مجرد قراءة مفردات لغة الجسد التي تتحلى بها. بينما كان الأداء العام لباقي أفراد طاقم العمل؛ بين المتوسط والجيد. في النهاية جودة TENET لا تظهر في التمثيل، بل الإخراج؛ وطريقة تزامنه مع تموضع قطع الأحجية بشكلٍ مدروس خلال الخط الزمني للأحداث.
العنصر الأقوى في الفيلم كله بالطبع؛ الإخراج!
لا يوجد الكثير ليُقال في هذه النقطة، لأننا جميعًا نعلم أسلوب نولان الإخراجي. لكن لجعل هذه المراجعة شاملة، يجب شرح أسلوبه بعض الشيء. يتميز هذا المخرج بالكادرات الإخراجية الضيقة بشدة في الأماكن المغلقة، والواسعة بشدة في الأماكن المفتوحة. هذا بدوره يخلق تضادًا بين أنواع الكادرات، ويُعطي للمشاهد إشارة إلى أنه يجب التركيز هنا، لأن الكادر مختلف؛ فبالتالي الأحداث مختلفة.
وبعيدًا عن الكادرات، يتميز أسلوب نولان بالاستخدام البسيط (لكن الدقيق) للألوان. فقصة الفيلم هنا تنطوي على الذهاب للمستقبل، وأيضًا العودة للماضي، وذلك بطريقة متقطعة. ولا تستطيع أي كاميرا، ولا يستطيع أي مخرج، لفت نظر المُشاهد لمشاهد الذهاب أو العودة؛ فقط بحركة الكاميرا. وهنا يأتي نولان ويستخدم للذهاب لونًا ثابتًا، وللعودة لونًا ثابتًا. وبذلك يقوم بعمل ارتباط شرطي بين عينك، واللون؛ فيحقق الغاية الارتباطية الذي أرادها، وبأقل مجهود فعلًا.
بدون شك، وحتى قبل سماع المقطوعات الموسيقية، نحن على اعتقاد راسخ بأن الموسيقى من تلحين هانز زيمر، أليس كذلك؟
لكن يأتي نولان ويصدمنا جميعًا، ليطرح علينا تعاونه مع المغني ترافيس سكوت؛ بشكلٍ صادم. فبعد تعاونه مع زيمر لفترة طويلة، وفي أكثر من فيلم، يأتي في النهاية تعاون من مغني راب. في البداية يمكن الاعتقاد أن التعاون غير موفق، لكن بعد مشاهدة الفيلم بالكامل، ومعاصرة المشاهد التي ظهرت فيها الموسيقى، سنتدارك أن هذا التعاون كان الأنسب فعلًا. حيث تتميز موسيقى ترافيس بالحماس تارة، وأصالة الراب تارة أخرى؛ وهذا ما تناسب مع كَون الفيلم يقع أسفل تصنيف الأكشن.
كما أنه إذا دققنا السمع، سنجد أن ترافيس اعتمد على تقديم أسلوب الراب القديم الذي تركه حاليًّا؛ وهذا سبب حالة نوستالجيا لدى مستمعيه القدامى.
الخلاصة : تجربة سينمائية من الطراز الرفيع، وتجربة نولانية فوق المتوسطة. فيلم احتوى على العديد من عناصر السينما الأصيلة؛ كالإخراج والسرد. لكن من الناحية الأخرى أغرق نفسه في الغموض حتى قتل المتعة بدون قصد. بالمُجمل TENET يستحق المشاهدة لرؤية نولان عائدًا للسينما من جديد، ولمعاصرة واحد من الأفلام التي يجب أن يتعلم منها مخرجو أفلام الأكشن بدون شك.